رقية.. المرأة التي سرق منها الجوع عقدها المخبوء منذ عقود

Monday 30 November -1 12:00 am
رقية.. المرأة التي سرق منها الجوع عقدها المخبوء منذ عقود
- متابعات:
----------
حكايتُها مؤلمة مبكية، فاقم منها الحال الذي تعيشه في زمن الجوع والدم بعد سيطرة الانقلاب على مدينتها، هي حكاية تختلط فيها الملهاة بالمآساة على نحو لا تجده إلا في اليمن: بلد العجائب والطرائف.
 
الحاجّة رقية البتول.. اسمها هكذا.. سماها إياه أبوها رغما عن أمها.. فقد كان لاسم رقية وقع في نفسه، وكانت أمها تكره هذا الوقع وتكره أهله.. إنه اسم خطيبته الأولى التي ألغي زواجه منها بسبب أنَّ قطعة الأرض التي ورثها عن أبيه باعها ليسدّد بثمنها ما عليه من زكوات وضرائب للإمام.. وحين دارت الأيام وتزوّج بأخرى وكانت هذه البنت؛ سماها رقيّة، ولم تمنع معارضة هذا الاسم من قبل الإم أن يتكرر في بيتها في اليوم عشرات المرات.. يردِّده أبوها في تلذُّذٍ عجيب.. وتنفر أمها منه لأنه أتاح لاسم ضرة وهمية أن تتردّد أصداؤه في بيت عتيق تقطنه الأسرة في إحدى قرى مٌريس..
 
بهذه المقدّمة افتتحت الحاجة رقية حكايتها.. ثم توالى سردها للأحداث وصولا إلى قصة القروش البيضاء..
 
والقروش البيضاء هي عِقدٌ ضخم كان يُصنع من مصكوكات فضية، ويطعّم بحبات (الكهرب) اللامعة، وكان هذا العقد عادة ما يعطى مهرا للعروس، ويشي حجمه وأنواع المصكوكات فيه بالحالة الاقتصادية للعريس من جهة ولمكانة العروس من جهة أخرى ولذا كان معيارا للتفاخر بين نساء المجتمع.
 
الطريف في عقد الحاجة رقيّة أن زوجها حين قدّمه مهرا لها اشترط على أبيها أن يعطيه عقد أمها وكانت قد توفيت لأن هذا عقده ضخم ويزيد سعره على متوسط المهر.. بل ويساوي ضعف عقد الأم المتوفاة.. وبدون نقاش وافق الأب على مطلب العريس واشترط كتمان هذا الأمر على الناس مراعاة لمشاعر ابنته.. وأصبح العِقد الضخم خالصا لرقية التي كانت تتباهى بأكبر عقد في القرية..
 
وتمر السنين ويموت زوج رقية دون أبناء.. فتعيش وحيدة إلا من عقدها المخبوء في تابوتها القديم والمختزل لذكرى أبيها وأمها وذكرى زوجها الفقيد، وإلا من دكانة صغيرة تركها لها الزوج الراحل كانت تبيع فيها بعض الحاجيات وتعيش من عائدها البسيط، وكانت حين توشك على الإفلاس تفكر بألف طريقة وطريقة لاستعادة عافية الدكان.. إلا أنها تبيع العِقد.. فذاك أمر مستبعد.. بل وفي حكم المستحيل.. كيف تبيع عقدا هو بساط الريح يأخذها حين تخرجه من التابوت إلى ذلك الزمن الجميل..
 
ظلت الحاجة رقية تكابد بدكانتها الصغيرة مشقات الحياة بنفس راضية.. ووسط محبة أهل القرية الذين كانوا يكنون لها الاحترام ويشترون منها حاجياتهم الصغيرة بنوع من الكرم تقديرا لحالتها المادية، ومع كل هذا الشقاء كانت الأيام تمضي والزمن يمرُّ، ودارت السنوات خمسا وعشرين دورة، والحاجة رقية لا تزال صامدةً حتى دخلت منطقة مريس بالضالع ساحة الصراع وجاء المغول، فتدهورت حالتها المادية.. وحين نزحت الأسر شرقا وغربا وجدت نفسها مجبرة على الرحيل.. إلى أين؟؟ لا تدري، غير أنها مستيقنة أن البقاء يعني الموت.. 
 
والتفتت الحاجة رقية إلى عقدها الفضي.. متناسية كل المشاعر النائمة فيه.. وفكرت جدياً ببيعه.. فلا بد للقرش الأبيض أن ينفع في اليوم الأسود.. وهذا هو اليوم الأسود.. وأي يوم أكثر منه سوادا... ولأنه لم تجد من يشتريه فقد دسته بين ثيابها واصطحبته معها.. في رحلتها المجهولة على أمل أن تجد من يشتريه، فتستفيد من ثمنه.. وخرجت من قريتها مع عددا من أهالي القرية.. تكفلوا بمصاريف نزوحها حتى وصلت مدينة تعز..
 
وحين فتحت صرتها لم تجد العقد.. لقد ضاع.. وتكاد تجزم أنه سُرِقَ في إحدى النقاط التي تعرضت فيها للتفتيش في الطريق الطويل من قريتها إلى هذه المدينة المنكوبة.. 
 
لقد سُرِق القرشُ الأبيضُ في اليومِ الأسود إذن..
 
وما بين بيع أبيها لقطعة الأرض الوحيدة التي يمتلكها وبين ضياع عقدها يتراءى الوطن للحاجة رقية لوحة متداخلة الملامح متشابكة الخطوط، في إطار من الفاقة والحرمان.. فأي يمن سعيد هذا الذي يكذبون به على العالم؟؟
 
لكنَّ الحاجة رقية وهي تروي حكايتها المرة.. تقول وعلى وجهها ترتسم ابتسامة حزن ذابحة: لا آسف على العقد الذي سرقه مني الفقر والحاجة.. وإنما على وطن مسروق تفرق دمه بين تجار الدم وتجار المبادئ والمواقف.