كولونيل ومستشرق إنكليزي نصح حكومته بإقامة مصحة طبيعية لجنوده فيها وغزاها الأتراك لوفرة محاصيلها الزراعية.. جبل جحاف.. هضبة جميلة هجرها سكانها بسبب وعورة الطريق

Monday 30 November -1 12:00 am
كولونيل ومستشرق إنكليزي نصح حكومته بإقامة مصحة طبيعية لجنوده فيها وغزاها الأتراك لوفرة محاصيلها الزراعية.. جبل جحاف.. هضبة جميلة هجرها سكانها بسبب وعورة الطريق
----------
محمد علي محسن
 
جبل جحاف، مديرية واقعة شمال غرب محافظة الضالع جنوب البلاد وتعد أعلى قمة في المحافظات الجنوبية والشرقية مجتمعة، وهي عبارة عن هضبة صغيرة لا تتعدى مساحتها ٧٥كم مربع تقطنها كثافة سكانية تقدر بنحو ٣٠ ألف نسمة وفق إسقاطات مكتب الإحصاء والتعداد السكاني، فضلاً عن ارتفاعها السامق البالغ في وسطها ٧٠٠٠ قدم عن مستوى سطح البحر، فيما ذروة ارتفاع أعلى جبالها "المنارة" ٧٨٤٠" قدماً .
وما يميزها عن سائر المديريات أنها وبرغم كونها ملاذاً للباحثين عن الطبيعة الخضراء النضرة وعن نسمة هواء نقية وغيمة مطر هاطلة في عز لظى الصيف حرارة وكربة لسكان مناطق صحراوية وساحلية؛ تعد منطقة طاردة لأهلها الذين تجدهم يتوزعون على مدن يمنية عدة وبشكل لافت جعلنا نقترب لمعرفة أسباب تلك الهجرة الداخلية إلى مناطق يمنية مختلفة، خاصة مدن الضالع وعدن ولحج جنوباً والتي كان نصيبها اكبر من أي محافظات يمنية أخرى .
عائلات بكاملها أجبرت على مغادرة ديارها وقراها، بحثاً عن لقمة العيش مثلما هو حال اليمنيين في الخليج والعالم، وهروباً من معاناة الطريق الصخري بدرجة رئيسة، ومن ثم شحة مياه الشرب خلال أشهر الجفاف.
الطريق الرئيس الواصل إلى الهضبة الجميلة لا يزيد طوله عن 19 كم إلى أقصى الهضبة في الناحية الغربية، فيما لا يزيد طوله عن 15 كم بين مركز المحافظة الضالع ومركز المديرية السرير، ومع هذه المسافة القصيرة كان لوعورة الطريق سبب مباشر في زيادة كلفة النقل للمواد والماء والبشر، ما يعني ارتفاع كلفة العيش في هذه البقعة العالقة بين السماء والأرض .
فمن قمة جبل جحاف المتشكل من سلسلة جبال تحف القرى المنتشرة القريبة من بعضها وعلى كامل جغرافية المديرية الضئيلة؛ يمكن للمرء يمكن رؤية جبل شمسان في أقصى جنوب مدينة عدن الواقعة نحو 140 كم جنوباً، وكذا جبال صلاح الدين غرباً؛ بل وتيسر لي شخصياً مشاهدة جبال عدن ومن خاصرة الجبل وقبيل بلوغ ذروته المنيفة المطلة على مناطق شاسعة في الضالع وإب وتعز ولحج .
كانت الرحلة في الماضي القريب أشبه ببطولة رالي ولكن لاقتحام الحفر والمطبات والأخاديد التي عادة ما تخلفها سيول الأمطار الموسمية، لكنها وللأمانة صارت في الحاضر أقل مشقة، بفعل سفلتة قرابة نصف الطريق وكذا لبعض التدخلات البسيطة المتمثلة برص عديد من الطرق الفرعية الداخلية من جهة مشروع تنمية الموارد او من نفقة السلطة المحلية .
وما يؤسف له أن مشروع الطريق كان على وشك إتمامه بالسفلتة بعيد إنهاء عملية الشق للجزء المتبقي والصعب، وقدر لي رؤية آليات ومعدات مقاول المشروع وهي واقفة في مكانها أو أنها باتت خردة متهالكة، هذا اذا لم نقل بتشليح بعضها من قبل اللصوص .
وأعتقد أن اليابانيين والصينيين لا يعلمون شيئاً عن معجزاتهم الصناعية وهي تتراقص هنا متحدية التضاريس القاسية، والَّا لكانت لقطة متلفزة تغنيهم متاعب الدعاية التجارية لسياراتهم ودراجاتهم .
وخلال رحلتنا التي لم تستغرق غير ساعة زمن، رأينا الشباب والكبار وهم يفترشون مواضع عدة على جانب الطريق الرئيس الواصل مركز المحافظة "الضالع" بقرى جبل جحاف المنتشرة معظمها في سفوح وتلال وقمم تلك الجبال .
قرى متناثرة متقاربة المسافة بين الواحدة والأخرى، فكلما ارتقت بنا السيارة إلى الأعلى بدت لنا تلك القرى الوديعة في الأسفل كاشفة وجهها البديع فيما رأسها سافراً لعنان الفضاء .
ما لاحظناه خلال رحلتنا هو أن كل مسكن يوجد بجواره خزانا حديثا لحصد مياه الأمطار الساقطة على المنطقة، فكرة ممتازة أحالها مشروع تنمية موارد المجتمع إلى واقع منجز في كل قرية ومسكن، وهو ما يعني أن أشهر الجفاف تم معالجتها وبأقل كلفة مالية، فبدلاً من عناء وكلفة الشراء للمياه ومن مناطق بعيدة بات الآن لدى كل عائلة ماء يكفيها للشرب والاستخدام المنزلي .
وأشاد الأهالي بمشروع تنمية موارد المجتمع الذي قام خلال فترة عمله بالضالع بعمل خزانات شرب سعة  3000 جالون لكل منزل وعائلة، علاوة لقيامه برص طرقات فرعية وبناء جمعيات وإقامة مشروعات زراعية ومائية، وتشجيع السكان على تربية النحل وتحسين المنتجات الزراعية إلى جانب أعمال واهتمامات مختلفة .
وقالوا للصحيفة إن المشروع وصلت خيراته إلى جميع قرى المديرية، وفي وقت لم تتمكن الحكومات المتعاقبة إيصال الطريق أو مشروع المياه، رغم أهميتهما للسكان الذين اضطرتهم الطريق وكلفة الأشياء الضرورية إلى مغادرة قراهم بحثاً عن مستقر تتوافر فيه فرصة عمل وخدمة وسلعة في متناول اليد ودونما متاعب أو عذاب .
بدوره، قال المهندس/ عبد الله الدقيل- مدير مشروع إدارة موارد المجتمع المنتهية فترته- إن المشروع هو مشروع تنمية ريفية ويمثل إحدى الاستراتيجيات بين الحكومة اليمنية والصندوق الدولي للتنمية الزراعية "إيفاد" لمكافحة الفقر في المناطق الريفية .
وكشف عن أن مشروع حصاد مياه الأمطار استفادت منه 5700 أسرة في ريف محافظة الضالع وبنسبة 30% من الفئات المستهدفة لتلبية حاجتها وبمعدل 10 لتر للفرد يوميا خلال موسم الجفاف " أكتوبر – فبراير" وبواقع 150 يوماً ومن خلال تنفيذ وبناء منشآت لحصاد المياه الصغيرة وأنظمة مياه سطحية وتطوير الينابيع وبمشاركة عينية من المجتمع وبنسبة لا تقل عن 34 % من الكلفة وبشكل عيني .
وأوضح أن الكلفة الإجمالية للمشروع ٢٢.٧٥ مليون دولار يعتبر الإيفاد الممول الأساسي للمشروع بقرض قدره ١٤.٣ مليون دولار بنسبة ٦٢٪ من التكلفة الإجمالية في حين تبلغ مساهمة الحكومة ١٣٪ والمجتمع المحلي ٢١٪ إلى جانب مساهمة صندوق التشجيع الزراعي والسمكي ٣٪ وبنك التسليف التعاوني ١٪.
وأشار إلى أن فترة المشروع سبعة أعوام بدأت ٢٠٠٧م وتوزعت مناشطه بين تحقيق نمو مستدام وعادل في مستوى الحياة المعيشية في الريف وتوفير فرص أفضل لاستقرار الحياة المعيشية للفقراء ومساعدة المجتمعات المحلية على الحفاظ وصيانة واستخدام الموارد الطبيعية المتاحة وإدخال التقنيات ورفع قدرات ومعارف الأسر الزراعية لتحسين عائداتهم من الإنتاج النباتي والحيواني وتمكين المجتمعات، بما في ذلك المرأة والفقراء للمشاركة في عملية تخطيط وتنفيذ الأنشطة التنموية وتطوير قدرات الجمعيات .
ورغم ربط قرى المديرية بشبكة الكهرباء العمومية وكذا إيصال خطوط الهاتف الثابت والجوال، إلا أن إخضاع تنفيذ الطريف وربطه بالولاء السياسي لنظام الرئيس الأسبق صالح، حال دون إنجازه في الوقت المخطط له .
وأكد عدد من الأهالي أن الأمر لا يقتصر على تعثر الطريق فقط، وإنما أيضا مشروع المياه الذي كان مقرراً افتتاحه في عيد الثورة ٢٦ سبتمبر ٢٠٠٩م وبكلفة مالية قدرها 3 مليون و800 ألف دولار "٩٥٦ مليوناً و٣٠٥ آلاف ريال"، صرف منها على المشروع مليون و670 ألف دولار " ٤١٦ مليون و٤٧٦ ألف و٧٦٢ ريال يمني" .
وأشاروا إلى أنه لم يتبق للمشروع غير المرحلة الأخيرة المتمثلة بتركيب المضخات، ومع ذلك تعثر ولأسباب عدة ناتجة عن تخلف المقاول والجهات المركزية في صنعاء عن الإيفاء بما عليها..
وأكدوا أن ظاهرة الهجرة الداخلية أخذت بالانحسار التدريجي مع بدء أعمال مشروع الطريق ووصول الكهرباء والاتصالات، لكنها ومع تعثرها عادت مجدداً .
وقال مدير عام مكتب وزارة الإشعال والطرق في محافظة الضالع، المهندس/ عبد الرحمن علي حمود، إن البدء بشق وسفلتة الطريق كان عام 2003م وبكلفة اجمالية قدرها أكثر من مليوني دولار، ما يعادل، ٥١٠ مليوناً و٤٢٩ ألفا و٢٩٥ ريالاً يمنياً، نفذ منه بما قيمته مليون دولار، " ٢٤٣ مليون و٦١٨ ألفا و٣٤٧ ريال يمني"، منها شق ١٤ كيلو متر و ٦ أعمال إنشائية و٥ كم سفلتة .
وأضاف إن إنجاز مشروع الطريق لم يكتمل نتيجة لتعثره جراء تبدل المقاولين وتارة بسبب قلة المال المرصود سنوياً أو نتيجة للمماطلة والتسويف في صرف مستخلصات مستحقه للمقاولين من قبل الجهات الحكومية المركزية في صنعاء وتحديداً من وزارة المالية .
وكان الأهالي بادروا لإصلاح الجزء الشاق البالغ طوله أقل من واحد كيلو متر ولو من خلال تبرعات السكان، إلا أن جهودهم تلك لم يكتب لها النجاح حتى اللحظة نتيجة لاستدامة الحرب، وما ترتب عنها من أوضاع قاهرة أجلت تنفيذ المبادرة الشعبية لرص الطريق الصخري الذي لا يزيد عن كيلو متراً واحد فقط .
وكان أحمد الشيخ- صاحب فكرة المبادرة الشعبية- دعا في وقت سابق الحكومة ووزارة الإشغال العامة وكذا الصناديق والمؤسسات الدولية إلى مساعدة الأهالي في إتمام مشروع الطريق .
ولفت الشيخ إلى أن إنجازه سيحد من مشكلات كثيرة منها توقف النزوح من المنطقة، ووصول المواد والسلع، وحتى مياه الشرب في حالة الجفاف وبأسعار مقبولة غير مكلفة على السكان مثلما هو حالهم الآن مع وعورة الطريق التي يجد السكان صعوبة في دفع قيمة صهريج مياه سعة  3000 ألف جالون أو 2000 جالون وبواقع 120 دولار – 80 دولار على التوالي .
وتشرف هضبة جحاف على مجرى وادي تبن النابعة مياهه من جبال محافظة إب الجنوبية المنيفة وسط البلاد، مروراً بمساحة شاسعة بمديريات قعطبة والحشا والضالع والأزارق في محافظة الضالع، وليس انتهاء بسهول محافظة لحج الخصبة شمال عدن، قبل ان تغور في أعماق الرمال الفاصلة ما بين بحر العرب شمال غرب محافظة عدن وأطراف مدينة الحوطة الجنوبية مركز محافظة لحج .
كما ويمكن التحكم في مساحات واسعة إلى الشمال نحو سهل بلاد الهجر حتى جبل الشعر جنوب شرق محافظة اب وسط البلاد، وجبل العود وجبل مريس غرباً شمال شرق مركز محافظة الضالع.
غادرنا هضبة جبل جحاف الجميلة، عائدين إلى مدينة الضالع، وبينما أخذت سيارتنا تمخر عباب أديم تكسوه خضرة المدرجات الزراعية وغيمة فضاء ترسل ودق المطر مصحوباً بنسمات باردة منعشة للروح المتعبة، تذكرت كلمات الضابط والمستشرق الإنكليزي اللفتانت كولونيل "هارولد جاكوب " التي سطرها في كتابه "ملوك شبه الجزيرة العربية".
 فأثناء مغادرته لإمارة الضالع عام ١٩٠٧م قال: إنه لم يندم غير على هضبة جبل جحاف التي غزاها خصومهم الأتراك لوفرة محاصيلها الزراعية وانه اقترح على حكومته إنشاء فيها مصحة استشفاء للجنود البريطانيين، متعشما الموافقة على إقامة أعظم مصحة طبيعية في الشرق الأوسط، ﺑﺤﺴﺐ تعبيره .
وأضاف المستشرق الانكليزي "الأتراك طمعوا في هضبة جحاف الجميلة، التي تكثر فيها المحاصيل الزراعية، ويوجد بها نحو ثلاثمائة وستين بئرا، وارتفاعها عن سطح البحر ثمانية الآف قدم".
وأردف: "إن اليمن بلد لطيف وجميل.. آه كيف أنساك أيتها اليمن؟ اليمن الخضراء لن تنسى طالما بقيت يدي حية تؤدي وظيفتها دون أن تنسى مهارتها.. أنني أحب اليمن. أحب روابيها وأحب وديانها ونضارتها، كما أحب كذلك صحاريها الرملية.. إن قمم هضابها تحتوي آثاراً مادية، ومخلفات للكثيرين من كرام الأسر والعائلات القديمة".
واختتم كلماته قائلاً:" إن العالم القديم والجديد موجود هنا في بقعة واحدة. إنني أتمنى أن يسجى جسدي هناك هادئاً مرتاحاً وكلمات الشاعر المعري ترن في أذني: عندما يحين أجلي؛ ويأتي رحيلي. دعوني اضطجع متوسد الثرى في زاوية من الأرض. اليمن معبودتي اوستثيا ... وأنا العابد الولهان أوبرو برشيوس".