لم أشعر بأي أسف لتعمد تغييب القضية الجنوبية وممثليها من جدول أعمال مشاورات جنيف (السابقة الفاشلة أو المرتقبة) فكما توقع الكثيرون ومنهم كاتب هذه السطور لم يحقق ولن يحقق جنيف أي اختراق يذكر في جدار الأزمة اليمنية لأن طرفاها لا يتسلحان إلا بميزة واحدة وهي العناد والإصرار على إلغاء كل منهما الآخر مع بعض المفردات الزئبقية التي يقدمها المتحدثون باسم الشرعية لزوم البروتوكول والمناورات الدبلوماسية.
ما أود أن أشير إليه هو الاندهاش الشديد من ذلك التواؤم الغريب والطريف بين موقفي الطرفين من القضية الجنوبية والذين يختلفان في كل شيء إلا في هذه القضية.
ليس غريبا موقف الحوثيين وحتى حليفهم السابق علي عبد الله صالح وورثته، فهؤلاء وأولائك لا يرغبون في سماع مفردة الجنوب، ناهيك عن إنهم لا يعترفون بوجود قضية جنوبية، لكن ما يثير الغرابة والاندهاش هو موقف تحالف أنصار الشرعية التي ينسبون كل مساوئها وتخبطاتها إلى الرئيس هادي بعلمه حيناً وغالباً بدون علمه.
وجه الغرابة يتمثل في مجموعة من التساؤلات: أولها كيف يمكن لحكومة شرعية لم تحقق أي نصر يذكر على من انقلب عليها، باستثناء محافظة مأرب التي حرر بعض مديريات أبناؤها الأبطال ولم يأتِ (الجيش الوطني) إلا لينظم عملية نهب الإعانات واستثمار الدعم العربي لحفلات الزواج الجماعي وإقامة الولائم وإعداد القوائم الوهمية ـ كيف يمكن لهكذا حكومة أن تتهافت على الحوار مع من حاصر رئيسها واحتجز وزراءها واحتل منازل قياداتها ثم ترفض شريكا لها سجل باسمها أروع انتصارات (وهي الانتصارات الوحيدة) في هذه المعركة، ثم بعد أن تستلم هذه الحكومة الأرض ومن عليها وما عليها، تتخذ من صناع هذه الانتصارات أعداء مبينين؟ وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر وهو: هل فعلا الطرفان (الانقلابي والشرعي) في علاقة عدائية ويتحاربان فعلا أم إنهم يمثلون على الشعب اليمني وعلى دول التحالف، خصوصا ونحن نعلم أن بعض وزاء الحكومة وقادتها هم ممن وقفوا في صف الانقلاب وأيدوه حتى ما بعد عاصفة الحزم، ليستمر الطرفان في العبث بموارد هذا الشعب على شحتها، واستنزاف دول التحالف على طريق تكوين ثروات مهولة لقادة الشرعية بينما يستمر القادة الحوثيون في بناء استثماراتهم والانتقال شيئا فشيئاً إلى مستوى الطبقات الأثرى والأغني على المستوى المحلي والإقليمي؟
وفي هذا السياق تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورا وأخبارا عن لقاءات لقادة حوثيين وشرعيين وهم يتقاسمون ناقلات النفط في شبوة وحضرموت، وأخرى تحدثت عن قيادات في الشرعية تهرب عشرات القوافل المحملة بالأسلحة إلى صنعاء لتعزيز كفة الحوثيين. (بما فيها صواريخ سكود التي يقصفون بها الإراضي السعودية).
لا أتمنى على الجنوبيين أن يعلقوا آمالاً كبيرة على مشاورات جنيف الراهنة والمرتقبة قريبا أو بعيدا، ولا أن يغضبوا لعدم المشاركة فيها فالمشاركة مثل عدمها، وهذه ليست دعوة لمقاطعتها، لكنها قراءة مستوحاة من تجارب (الجنيفات) السابقة وتجربة مشاورات الكويت.
الحكومة التي ترغب في استعادة مشروعيتها تبني تحالفات موسعة وتقدم تنازلات كبيرة في سبيل تمتين جبهتها وتعزيز قاعدة المراهنين على نجاحاتها والبرهان أنها تتبنى تطلعاتهم، وحكومتنا الموقرة جدا تستبعد أقرب الناس إليها وتحولهم إلى أعداء بلا مبرر وتراهن على ملايين من الآسماء الوهمية التي لم يدافع أصحابها على قراهم ومنازلهم وديار قادتهم القبليين والحزبيين، ولا حتى زعيمهم (الرمزي) الذي أنفق المليارات على شراء ولاءاتهم.
إنني أتحدث هنا عن الرموز السياسية والقبلية التي ما انفكت على مدى نصف قرن ونيف تشخط وتنخط وتستعرض عضلاتها، وتهدد من يخالفها بالويل والثبور وعظائم الأمور وحينما اجتاحتهم مجموعة من الصبية الحوثيين لم يصمد منهم إلا أقل القليل ومعظمهم من الرجال المدنيين الذين يستنكفون أن يناديهم أحد بعبارة (يا شيخ) أما الشعب الشمالي فكان وما يزال وسيظل ضحية تلك القيادات التي لم تنجح إلا في الفساد والإفساد وفي الهروب وقت الهزيمة وما تزال تتغنى بالانتصارات العظيمة في تكديس المليارات وتجويع الشعب وتصدير الفتاوي القاضية بقتل المخالفين لها بالرأي.