على سلم الطائرة المغادرة صوب مدينة عدن من العاصمة المصرية القاهرة فجر يوم الـ2 من ديسمبر 2018 توقفت لأتأمل وعد سابق لي بان اكتب عن الرئيس اليمني السابق "علي عبدالله صالح" في ذكرى استشهاده. نقاشات المسافرين على طول الطريق إلى الطائرة ،تشعرك بفداحة ماوصلنا إليه في "اليمن" ان يفتقد 26 مليون يمني على حين غرة وطن متكامل "الأركان"..! أصعب الأشياء ان تقطع وعدا بالكتابة عن رجل شكل وجه اليمن لأكثر من 38 عام كاملة وسيشكله فيما هو قادم من الأعوام حتى يفتح الله بيننا وبين نساء اليمن . وضعت رأسي على كرسي الطائرة وغرقت مطولا في تخيلات كثيرة حول البداية ، والبداية في الحياة هي أصعب الأشياء "الحب الأول" والكره الأول والكلمات الأولى وكل شيء في بدايته يبدو صعبا متعسرا وربما جميلا! . تهادت الطائرة في السماء في طريقها إلى اليمن وفوق مدن يمنية مرت ، المدن التي يقتل أهلها بعضهم بعضا منذ 4 سنوات مضت ..! قررت ان اكتب عن "صالح" وفي اليمن لايكتب الصحفيون غالبا عن الشخوص إلا بمقابل .. قال لي احد أصدقائي ناصحا :" لاتكتب عن "صالح" لكي لايقولون انك تبتغي مصلحة!. سألته :" وأين صالح؟ قال :" مات وارتحل..! قلت :" وأين حكمه وجاهه وسلطانه وعطاياه. قال :" ذهبت مع الرياح وزالت وأصبحت من الماضي.. قلت له :" إذا لافائدة مادية ترجى من الكتابة عن صالح ، لذا دعني اكتب عن (الماضي) بلاثمن لعل الحاضر يكون ذو قيمة ، دعني اكتب عن اقتناع بالأشياء ، الأشياء التي لاتعود ، الأشياء التي تظل ملتصقة بالذاكرة والروح والوجدان حتى وان رحلت وصالح كان إحداها دعنا نكتب لكي لايزور تاريخ عشناه بانفسنا.. تعوَد الصحفيون في اليمن ان يكتبوا عن الشخصيات الحاضرة بمقابل، إلا انا.. تأسرني ذكرى الماضي ولا ادري لماذا ربما لفداحة مانعيشه من حاضر ؟ وفي اليمن ثمة قصة يجب ان تكتب بحياد وصدق بعيدا عن كل الانتماءات الضيقة والخلافات السياسية وهذه قصة رجل من اليمن اسمه "علي عبدالله صالح". وفي اليمن ملك صالح في حياته مئات الصحف والقنوات والآلاف من الكُتاب الذي قالوا عنه كل شيء ووقف "فتحي بن لزرق" يومها على الضفة الأخرى ليقول في صالح كل ماهو (سيء) وحينما مات صالح قرر "فتحي" ان يكتب شيء مغاير لايرتجي منه فائدة تذكر . اكرر ذلك لأنني افهم مزاج يمنيون كثر ، المادة ثم المادة ثم المادة..! في ذكرى استشهاد الرئيس السابق "علي عبدالله صالح " سيتذكر اليمنيون هذا الرجل ولن ينسوه أبدا ولو بعد ألف عام، عاش فريدا، قويا مهابا ،وحتى هو يموت مات كالأشجار واقفا وقلة من الرجال من يفعلون ذلك . وفي حاضر الشعوب وماضيها تظل أشياء كثيرة ملتصقة بذاكرتها ففي مصر يلتصق الفرعون بذاكرة الناس وفي إيران شاهها وفي فرنسا ملكتها التي نصحت الشعب ان يأكل البسكويت في عز جوعه وفي اليمن سيظل "صالح" حاضرا إلى الأبد باعتباره الرجل الذي عرف اليمن وعرفته كل اليمن ولن تنساه . حتى اللحظة لازلت تائها عن البداية ، اشعر بالعجز الكبير ،تضيع الكلمات، أتلمس طريقها كأعمى يسلك طريقا جديدة وطفل وليد يصارع لأجل اختطاف النظرات الأولى من هذه الحياة . في حياة اليمنيين الكثير من الكذبات التي صدقوها في عهد "صالح" ودفعوا ثمنها غاليا وكانت أولها مشكلة صعدة ومظلومية أهلها وآرية دماء "عبدالملك" ، حمل الحوثيون أول معاول الهدم بينما كانت اليمن هانئة ومستقرة وسعيدة وادعوا مظلومية لا وجود لها وخاضوا حربا ضد الدولة واحدة وثانية ورابعة وسادسة. ويومها وقف "صالح" ضدهم وظل يصارعهم حتى بعد اشتعال النار جنوبا وظلت الدولة صامدة بجيشها وقوتها في مواجهة الحوثي متصدية ببسالة لهذه الجماعة المارقة حتى جاء خريف 2011 ويومها تكالبت المعاول على الدولة من كل حدب وصوب ، أشعل اليمنيون في حاضرهم وماضيهم ومستقبلهم وصفقوا . صدق "اليمنيون" كذبة مظلمة الحوثي وحملهم الاصلاحيون ذات يوم على الأعناق وطافوا بهم بأنحاء ساحة التغيير وقدم هادي اعتذاره الشهير لهم وارتمى الحراك الجنوبي في أحضان جماعة الحوثي واستُقبلت قياداته في عدن وأقيمت الفعاليات وفي اللحظة التي اجتاح فيها الحوثيون المدن اليمنية واحدة تلو الأخرى وأشهروا سلاحهم بوجه الجميع ،قالت كل هذه الأطراف ان صالح كان سببا في ذلك ولو الناس تذكرت ولو لبرهة وسألت نفسها من حمل الحوثي على الأكتاف ؟ومن استقبله في عدن؟ ومن اعتذر له؟ ومن خلق مشروعيته بداية الأمر لأدركت الحقيقة المرة ، الحقيقة التي يحاول البعض تزييفها اليوم..! . والكذبة الثانية في اليمن التي صدقها اليمنيون ذات يوم في 2011 أنها لم تكن لهم "دولة" . كانوا يعيشون مثل كل عباد الله حول العالم .. كانت الكذبة الأكثر غرابة في تاريخ أي امة وشعب ،قالوا لهم ان جيش صالح "عائلي" وان الناس جائعة وان الخدمات متدهورة وان الناس مرضى وان التعليم متدهور وصرخ صعتر صرخته الشهيرة ارحل ترحل معك المجاعة..! رحل صعتر إلى فندقه الوثير في الرياض وحلت المجاعة بدلا عنه..! وتبقت لعنات تطارد أمثاله. بدَلوا الجيش الذي تشكل من كل أبناء اليمن بميلشيات متناحرة ومسلحة مابين طائفية وقاعدة وداعش ومناطقية نزقة وقطعوا كل الخدمات وأفقروا الناس واقفلوا المدارس. قالوا عبارتهم الشهيرة :" لادراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس . التفت اليمنيون لحظتها وتذكروا خطابات صالح وهو يصيح فيهم :" لن يحلوا مشكلة ولكن بعد فوات الأوان كان كل شيء قد ضاع! .. وفي ذكرى استشهاد " صالح" دعونا نتذكر أخطائه والتي كان على رأسه تسليمه السلطة في 2011 لغير أهلها ، واليوم يتذكر اليمنيون بأسى شديد هذا الخطأ التاريخي ولو ان صالح أصر على البقاء على كرسي السلطة ماكنت ذهبت البلاد إلى واقعها الأسود الذي تعيشه اليمن اليوم. سُلمت اليمن إلى غير أهلها عقب 2011 وكانت أشبه ببناء حديدي ضخم نزعت كل مسامير أمانه وسلامته ، فككوا الجيش وعبثوا بالمناصب والثروات وغاب عن اليمن حاكمها القوي والشديد وتاه القرار وتهاوشت الكلاب على قصعتها فبدت الدولة عارية من كل شيء منكشفة على كل الأخطار ولم يكن هجوم "الحوثي" إلا تحصيل حاصل لدولة خلعت كل أنيابها وبدت كأسد هش وعقيم. كانت الدولة ستسقط بيد قاعدة أو داعش أو أي (ريح عابرة) لم يكن الحوثي ولا أطماعه المشكلة ،الدولة سقطت فعليا في الـ في 23 نوفمبر 2011 حينما وقع على اتفاقية المبادرة الخليجية. خرج "صالح" يومها من السلطة فعليا وظل من بعده يحكمون اليمن 5 سنوات ولم يكونوا رجالا ولا قادات وحينما سقطت اليمن من يدهم قالوا ان صالح سلم البلاد للحوثيين وهم بكل حالاتهم هذه أدانوا أنفسهم فإذا كان ثمة رجل خرج من السلطة قبل 5 سنوات تغلب عليهم وانتزع الدولة من أيديهم فهذا لايعني إلا انه رجل شجاع واقوي منهم بسلطة أو بدون سلطة وإنهم اضعف واهون من ان يحكموا البلد.. وفي الحقيقة ان "صالح" لم يسلم صنعاء للحوثيين ولكن من سلمها لهم من فكك الجيش واضعف الدولة وعبث بها ومن لم يستطع ان يكون قويا مهابا ، تاهت اليمن خلال 5 سنوات باحثة عن رجال أقوياء ولم تجد ، كانت تفتقر إلى صالح كثيرا كثيرا أو مايشبه.. في إحدى مقاهي العاصمة المصرية التقيته "عبدالعزيز جباري" أخر اليمنيين الشرفاء ، كانت الأجواء باردة من العام الماضي كان يومها لايزال الحديث طريا عن استشهاد صالح في ديسمبر من العام 2017 . قلت له :" اخبرني كيف عاش صالح سنواته الأخيرة؟ مد "جباري" يده واحتسى كوبا من القهوة وقال متحسرا :" قد لاتصدق ان قلت لك انه في سنواته الأخيرة هجره كل الصحاب والرفاق ، مجلسه العظيم ذاك اندثر ولم يعد يزره احد لقد ارتحل كل شيء بارتحال السلطة عن يده .. قال "جباري" زرت صالح في أخر أيام وجودي بصنعاء بناء على طلب منه ،مد صالح يده وجر يد "جباري" ووضعها على بقايا جروح أصابته في محاولة الاغتيال الشهيرة وقال له :" يرضيك مافعله بي الإخوان المسلمين..! وكانت هذه الحقيقة عاش صالح بعيدا عن كل شيء خلال السنوات الأخيرة يطارد معجبيه على صفحته الشهيرة بالفيس بوك يقرأ له كل صباح نبيل الصوفي أفضل التعليقات مما قيل بحقه. وحينما انهارت الدولة وهربت الجموع وفرطوا فيها قالوا ان صالح فرَط في الدولة واستقدم الحوثيين بينما يعرف اليمنيون ان الحوثيين لم تطأ لهم قدما لا صنعاء ولا غيرها في عهد صالح . كانت هذه كذبة الحرب الكبرى في تاريخ اليمنيين كله ، سلم أعداء صالح الدولة للحوثي وفروا تاركين كل شيء خلفهم "صنعاء" وصالح وذكريات يمنية عتيقة عن دولة يمنية حاضرة في الوجدان وسكنوا الفنادق ولم يكونوا رجال يؤتمنون على دولة وتركوا 26 مليون يمني يواجهون مصيرهم الصعب. هذه الحقيقة التي يجب ان يعيها الشعب اليمني في ذكرى استشهاد صالح ورفاقه . وجد صالح نفسه ضمن يمنيون كثر في صنعاء بعد هروب حاكميها لاهم من الحوثي ولا هم من واقع الهاربين ، اخطأ صالح لاحقا بتحالفه مع الحوثي لكنه لم يكن له أي صلة بوصول الحوثي إلى صنعاء لقد كانت نتيجة تلقائية ومتوقعة لمعاول الهد التي انهالت على جسد الدولة اليمنية منذ ظهيرة الـ 11 فبراير 2011. وحينما اختلف "صالح" مع الحوثيين كان يملك قدرة اختيار "الهروب" مثل كثيرين لكنه لم يفعل ولم يكن الأمر يعجزه ، حتى الحوثيين كانوا اجبن منه حينما حملوا جثمانه إلى خارج صنعاء وادعوا انه هرب ، كان شجاعا بإقرار من اتفق واختلف معه كريما عظيما سموحا بشهادة الكثير من أعدائه وليس بشهادة "فتحي بن لزرق". اختار "صالح" الموت مختنقا برصاص قاتليه بينما اختار آخرون الموت اختناقا بالمواىد العامرة بكل مالذ وطاب من الأكل في فنادق الغير ومدنها طأطوا الرؤوس ومعهم طأطت كل رؤوس اليمنيين. في ذكرى استشهاد "علي عبدالله صالح" يستذكر اليمنيون قيّلا يمنيا عظيما ، وعظمة علي عبدالله صالح تكمن في انه يكسوك في حضرته بكل حواس العالم المختلفة فهو الشجاع والعنيد والظالم والمخطئ والمصيب والطيب والسيئ وهو الشخص الذي تحبه وتكرهه وتلعنه وتترحم عليه وتتمنى غيابه وسرعان ماتستنجد لحضوره .. يختلف اليمنيون كثيرا كثيرا حول صالح لكنهم يؤمنون جميعا ان الرجل لن يتكرر ، ورغم ان الرجل مات قبل عام واندثر حضوره إلا ان خصومه حتى اليوم يخافون حضوره وسطوته .. ما أعظم ان يخاف مناوئوك حتى وأنت ميت ، كان صالح الزعيم اليمني الوحيد منذ عقود الذي أحس كل اليمنيون انه من قريتهم .. قال لي شيخ مسن من أبين قبل أشهر من اليوم ان صالح زارهم بعد الوحدة وترجل والتقى بهم واحدا واحد. تحدث إليهم وتحدثوا له وبدأ صالح يسرد لهم تاريخ المنطقة ورجالها ومشائخها وشخصياتها ، حرص صالح طوال 33 عام من حكمه ان يكون جزءا من كل مناطق اليمن حتى خيل لكل أبناء اليمن انه من قريتهم . عن "صالح" لن يكفي منشور ولا اثنين ولا عشرة ، يحتاج الرجل إلى مجلد كبير نقف فيه على كل شيء على أخطائه وسلبياته وايجابياته وكل عثراته ونجاحه وإخفاقه.. وددت ان اكتب هذه الشهادة في ذكرى استشهاد الرجل لعلها تنفع المؤمنين..ختامها ومفادها ان اليمن بحاجة إلى شخص يشبه علي عبدالله صالح لكنه أكثر عدالة ومحبة وسلام وقوة .. وودت ان اكتب شهادتي هذه لكي لايدلسون على الناس فيما يخص من سلم صنعاء للحوثي ومن خان الوطن وباعه.. فتحي بن لزرق 2ديسمبر 2018