ثالثاً وأخيراً
------------
...سلمتها( أي نتائج زيارتي لشبوة) للرئيس سالمين ، ولا زلت أحتفظ بنسخة منها . وفيها قلت "إن العودة إلى الحوار هو الوحيد الذي سيفتح طريقاً إلى قلوب لن يترك اليأس أمامها من سبيل سوى المقاومة " .
بعد أسبوع ، وأثناء إجتماع لجنة المحافظة ( تنظيم الجبهة القومية) تحدث سالمين مخاطباً الاعضاء قائلاً على نحو مفاجئ :
"با نرسلكم يا أعضاء لجنة المحافطة إلى سقطرى ، كل واحد يبقى لمدة شهرين هناك ، والجدول با يطلعكم عليه نائب سكرتير اللجنة الاخ علي سالم لعور" .
كنت على رأس القائمة . وكان علي أن أغادر إلى سقطرى مع أول طائرة أي بعد أسبوعين على الأقل .
في الإجتماع الذي أعقب القرار ، قلت لسالمين : وقع علي الإختيار في أن أكون أول الذاهبين إلى سقطرى ، ما المطلوب عمله في سقطرى !! قال :شوفوا أحوال الناس ، وعيشوا مشاكلهم ، واقرأوا وفكروا في الأشياء التي ما قدرتمش تفكروا فيها هنا في الزحمة ، هناك هدوء .
لم أعتبر ذلك عقاباً ، بينما خالفني البعض . لا أدري لماذا كان عندي إعتقاد أنه كان لسالمين هدف آخر . حاولت أن أربط بين تقريري حول شبوة وحديثي عن الحوار يومذاك وقرار ذهابنا إلى سقطرى ، ولكنني كنت أستبعد الربط وذلك برومانسية الشاب الذي كان يرى المستقبل بعيون لم تكن قد جرحتها قذى الايام ، ناهيك عما كان يمثله سالمين من رمزية وطنية لا يطالها الشك .
أمضيت في سقطرى قرابة الشهرين بين الجبل والبحر ، معظمها في "حديبو" لصعوبة الحركة الى مناطق أخرى، عدا "نوجد" ، التي كان علينا ان نقضي فيها أيام لإفتتاح فرع لشركة التحارة الداخلية قبل موسم الرياح الني كانت تغلق فيها الجزيرة ستة أشهر ابتداء من مايو ، وهو ما يسمى عند الصيادين بموسم الأزيب .
أما "قلنسية"على الساحل الشرقي من الجزيرة فقد تعذر علينا زيارتها بعد أن تعطلت السيارة في وسط الطريق وعدنا الى حديبو مشياً ، ثم على سيارة للجيش مرت بالصدفة . وعندما أردنا أن نزور جزيرة عبد الكوري قالت لنا السلطةً المحلية إن هناك مخاطر ، حيث أن الصيادين الصومال يقومون ببعض التحرشات حول جزر عبد الكوري وسمحة ودرسة .
الجبل المطل على ساحل حديبو ، وهو المحمية الكبرى في سقطرى قبل أن يخترقه الطريق الاسفلتي الذي يمتد من المطار حتى المعسكر الذي أقيم وسط الجبل بعد الوحدة ، كانت لنا معه حكاية وهي أنه في أول محاولة لزيارة إحدى قراه المتناثرة داخل الاحراش ، مشياً على الأقدام ، وجدنا البيوت خالية من الناس فقد فروا إلى زاوية في إحدى شعاب الجبل عندما رأونا قادمين . وكانت إحدى أهم مشاكل السلطة المحلية هي صعوبة توطين سكان الجبل الذين ظلوا ينفرون من أي غريب لفترة طويلة .
لم تكن سقطرى يومذاك مكاناً للتأمل ، إلا بمقدار ما تكون قادراً على أن تغمض عينيك وفؤادك عن معاناة الناس في تلك الفترة المبكرة .
كانت البعثة السوفيتية التي تنقب في انثروبولوجيا سقطرى ولغتها قد أنشأت مكتبة صغيرة احتوت على مجموعة من الكتب والروايات المتنوعة منها روسية على ما أتذكر : الاخوة كارامازوف ، الجريمة والعقاب ، كيف سقينا الفولاذ ، آنا كارينينا .. ومجموعة تشيخوف ، "وداغستان بلدي أنا" لرسول حمزاتوف ، وأخرى من الادب العالمي : ثلوج كليمنجارو ..استعرت منها قبل السفر مجموعة من الروايات قرأتها حميعاً ، وكان من أهم ما قرأت رواية " العجوز والبحر " لارنست همنجواي ، فالصياد العجوز يصطاد سمكة ضخمة لم يستطع أن يسحبها إلى قاربه الصغير . وإن استطاع ذلك بمعجزة ما ، فلن يتسع لها القارب . ولذلك قرر أن يشدها إلى ظهر القارب كي تساعده الأمواج في سحبها إلى الشاطئ . في الطريق إلى الشاطئ هاجمت أسماك القرش سمكته ، قاومها بقوة ، وبعناد شديدين حتى وصل إلى الشاطئ ، ولكن حين وصل لم يكن قد بقي من السمكة غير هيكل عظمي .
وفي لقاء مع سالمين سألني عن سقطرى ، فقلت له . الجزيرة تنتظر أن تصل إليها الثورة ، سأل كثيراً من الاسئلة ، وقال : بعدكم با يجي الدور على الوزراء وأعضاء اللجنة المركزية .
أنهيت هذا الكتاب الذي صدر في مارس ٢٠١٤ بهذه العبارة التي توافق محتواها مع جانب مما جاء في تقريري حول سقطرى :" لم يعد لدينا خيار سوى أن نعبر المضيق ، ونصل إلى الشاطئ إلى حيث ينتظرنا "وطن مؤجل" .. ولكن علينا أن نحسب حساب أن لا نصل إليه بهيكل عظمي" .
"أيا ثورة الشعب دومي مناراً
فإنا بهدي ضياك اهتدينا
لجأنا إلى شامخات الجبال
ومن شامخات الجبال ابتدينا
عمدنا إلى رأس اوراسنا
وردفان أوراسنا أجمعين .."
كل عام وانتم بخير .