قات (فرحان) قات
ذات قيمة وذات
جودة وقوة وإثبات
وفيه كل الصِّفات
مِنُّه اجلِبْ وهات
ظلّ مخزِّن وبات
تصنع المعجزات
هكذا كان يسوِّق تجار القات للترويج لأسوأ بضاعة طارئة وخبيثة دخلت سُقُطْرَى منذ عقدين فقط. وبمثل هذه الأبيات المسجوعة التي تمتدح القات وتُضفي عليه قوة سحرية كبيرة والكثير من الصفات المزيفة، يتم إغراء الناس عامة، والشباب خاصة، كصنع المعجزات (الوهمية) خلال سويعات مضغه واستجراره. وقد رأيت هذه الأبيات بأم العين مكتوبة بخطٍ عريض في لوحة تزين واجهة أحد محلات بيع القات في السوق الرئيسية لعاصمة سُقُطْرَى "حديبو" ، ودونتها- كما هي- في مذكرتي الشخصية أثناء زيارتي البحثية إلى سُقُطْرَى في أواخر أغسطس عام 2003م، لاستكمال ترجمتي للكتاب القيم (السُقُطْريّون- دراسات إثنوغرافية-تاريخية) وهو ثاني كتاب ترجمته عن سُقُطْرَى من اللغة الروسية بعد كتاب(سُقُطْرَى..هناك حيث بُعثت العنقاء)، وكان هدف الرحلة التدقيق والتحقق من المسميات السُقُطْريّة المحلية الكثيرة التي وردت كثيراً في فصول الكتاب بصيغتها الروسية. وقد مكثت لهذا الغرض أسبوعين كاملين، وقد صدر الكتاب العام الماضي عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر.
لا أود هنا إعادة شريط ذكريات تلك الرحلة الممتعة للجزيرة التي أحببتها وزرتها كثيرا قبل ذلك، رغم أنها صادفت موسم (القفول) أو(القفال) الذي تشتد فيه تيارات الرياح القوية العاصفة فتعيق وصول السفن وكذا تحدُّ من نزول الصيادين إلى البحر لاصطياد الأسماك بزوارقهم، إلا فيما ندر وفي أماكن مأمونة، ويتواصل موسم الرياح القوية حوالي نصف العام، وقد رأيت حينها حطام سفينة تجارية تؤول ملكيتها، كما قيل لي، للمستثمر صالح الوالي قذفت بها الأمواج القوية فاصطدمت بالصخور قُرب شاطئ حديبو. وبجانب اللسان البحري، المسمى مجازاً (ميناءً)ما تزال مكوَّمة حينها كميات كبيرة من أكياس الفحم، ألقتها سفينة أخرى تعرضت للاصطدام بفعل الرياح.
أما النصف الآخر من العام الذي تنعدم فيه الرياح ويتم خلاله ركوب البحر فيسمى (الفتوح)، ربما لأنه يفتح الطرق والأبواب للوصول إلى شواطئ الجزيرة وهو يبدأ مع موسم الخريف-الشتاء، وخلاله تخزن الجزيرة عبر منافذها البحرية ما تحتاجه من السلع والمواد الغذائية التي تنقلها السفن، بما يكفي للستة الأشهر الأخرى من موسم (القفال)، إذ يبقى الطيران خلالها هو الوسيلة الوحيدة، وتكاليف النقل فيه باهظة وليست بمقدور الجميع.
ورغم انقطاع بعض المواد الاستهلاكية التي نفد مخزونها، خلال زيارتنا في موسم (القفال)، إلا أن القات كان السلعة المدلَّلَة الوحيدة التي تصل مرتين في الأسبوع على متن الطائرة خلال رحلاتها من عدن وصنعاء إلى حديبو يومي الاثنين والجمعة، ويُباع بأسعار مرتفعة معظم أيام الأسبوع، ورغم سوء حالته بمرور الوقت، فأن الزبائن يبحثون عنه طوال الأسبوع، أما يوم وصول رحلة الطائرة فهو يوم عيد بالنسبة لهم، وقد رأيتهم يتدافعون ويتزاحمون في أكشاك بيعه للحصول على وريقات طرية منه بأغلى ثمن، وكأنهم يفوزون بجائزة كبيرة.
وبالمقابل لم أجد أثراً للفواكه الطازجة في محلات بيعها، عدا الموز السُقُطْريّ بحجمه الكبير، وحين كنت في إحدى (البوفيات) طلبت أي مشروب طازج من الفواكه، فعلمت من صاحبها أنه لا توجد أي فواكه خلال موسم الرياح، وكل ما لديه كمية محدودة من عُلب المانجو المركز من الحجم الكبير، يعمل منها عصير المانجو المخفف لزبائنه، فسألته: ولماذا لا تستوردون الفواكه عبر الطائرة أسوة بالقات؟.. ابتسم، وأجباب بحسرة: أصحاب القات يدفعون مبالغ كبيرة مقابل نقل كميات القات بحُزمٍ صغيرة، ويكسبون أرباحاً كثيرة لأنهم يبيعونه فوراً بأسعار عالية هنا ومع ذلك يقبل عليه الناس، مهما كانت نوعيته أو حالته، أما الفواكه فقد جربنا ذلك ولم نجد تجاوبا أو اهتماماً بتسهيل تكاليف نقلها من المسئولين عن رحلات الطيران، بل أنهم يفرضون علينا تكلفة أكثر بكثير عن تكلفة نقل القات بحجة حجمها وطريقة العناية بها، ولهذا فلن يكون بمقدور الناس شرائها فيتعرض صاحبها للخسارة.
وحين سمعت بقرار محافظ سُقُطْرَى الأستاذ سعيد سالم باحبيقه الخاص بمنع بيع وتناول القات في سُقُطْرَى الصادر مؤخرا سررت جداً لذلك القرار الذي يخلّص سُقُطْرَى وأهلها من وباء خبيث لم تعهده من قبل، بل انتقل إليها بالعدوى المتعمّدة، فقد كانت سُقُطْرَى ومثلها حضرموت والمَهْرَة بمنأى عن أضرار القات الذي لم يدخل أراضيها، ولم تعهده إلاَّ بعد حرب احتلال الجنوب صيف 1994م، ولعل هذه الخطوة الطيبة قد جاءت متأخرة، لكنها في الطريق الصحيح للخلاص من أضرار هذه النبتة الخبيثة التي تفقر الجيوب وتخدر العقول وتضيع الوقت الثمين في القيل والقال وتسبب الكثير من المشاكل الصحية والاجتماعية، وقد علمت حينها أن سُقُطْرَى تعاني من مشاكل أسرية عديدة بسبب تعاطي الكثير من الرجال للقات، بل أن البعض قد لجأ للسرقة للحصول على قيمة القاع، وهناك من باع ذهب زوجته وسخَّر ثمنه لاقتناء وتعاطي القات للعيش لسويعات في وهم (صناعة المعجزات) التي روج لها بائع القات (فرحان) في أبياته الشعرية الدعائية المضلّلة.. وأظن أن (فرحان) الآن قد أصبح على عكس اسمه (زعلان) و(غضبان) و(حردان) بسبب صدور هذا القرار الذي أعاد الاعتبار للإنسان وأفرح أهلنا وأسرهم في سُقُطْرَى وحرَّر المدمنين منهم من عبودية (القات) وويلات تعاطيه وجنبهم الكثير من المشاكل المادية والأسرية.
شكراً محافظ سُقُطْرَى.. ومبروك للسُقُطْريّين منع بيع القات في جزيرتهم الساحرة، وإحراقهم لأي كمية تصل مخالفة لهذا القرار. وعُقبَى لحضرموت والمَهْرَة.. وكذا للحد منه –على الأقل- في بقية المحافظات الجنوبية، خاصة العاصمة عدن، كما كان الحال من قبل، خلال يومي الخميس والجمعة وهذا عشمنا في محافظ عدن، اللواء جعفر محمد سعد، فهل يحذو حذو أخيه محافظ سقطرى؟؟.
ذلك ما نأمله.