أعادت الحرب الدائرة في اليمن بين الحكومة الشرعية من جهة، وبين تحالف جماعة الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح من جهة ثانية، قيادات عسكرية جنوبية من المنفى إلى واجهة الأحداث وقيادة المعارك في صف الشرعية، بعد عقدين من الزمن توارى فيها هؤلاء القادة عن الأحداث السياسية ووسائل الإعلام. وتسببت حرب الانفصال عام 1994 بين ما يُسمى آنذاك قوات الشرعية بقيادة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، وبين القوات الجنوبية التي كانت تريد إنهاء الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والعودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل 1990، في طلب العشرات من القادة الجنوبيين اللجوء في دول خليجية وأوروبية بعد انتصار قوات صالح ودخولها إلى الجنوب، وإصدار أحكام بالإعدام لاحقاً على قرابة 17 من أبرز القيادات العسكرية والسياسية الجنوبيين. لكن الحرب الدائرة في اليمن منذ نحو عامين أتاحت الفرصة لخصوم صالح التاريخيين من الجنوب لخوض معركة مختلفة ضده في ظل واقع مختلف، وبإسناد من التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات.
وفي السياق، تصدرت صورة القائد العسكري هيثم قاسم، وزير الدفاع في دولة الوحدة (1990 ـ 1994)، أثناء قيادته معركة الساحل الغربي مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية. ودارت نقاشات متباينة حول أدواره في المعركة.
وظهر قاسم ببدلته العسكرية بعد أن ظل 22 عاماً في دولة الإمارات التي لجأ إليها بعد حرب الانفصال 1994 ضمن عشرات القيادات الجنوبية التي هربت للمنفى. وهناك جمّد قاسم نشاطه السياسي وفضل الابتعاد عن الظهور الإعلامي، إذ لم يعرف عن الرجل إصداره أي تصريحات إعلامية حتى في إطار الحراك الجنوبي، باستثناء ظهوره في لقاءين منفصلين سبقا عودته للبلاد العام مع كل من رئيس الحكومة السابق خالد بحاح، وآخر رئيس للجنوب علي سالم البيض.
وعاد قاسم إلى اليمن ضمن قوات إماراتية للإشراف على تحرير مدينة المكلا من قبضة تنظيم القاعدة في إبريل/ نيسان 2016. وتشير المعلومات إلى أنه كلف من قبل الإمارات لاحقاً بالإشراف على كتائب عسكرية بقاعدة العند في محافظة لحج قبل أن يظهر كقائد لعمليات الساحل الغربي ويحقق تقدماً لافتاً هناك.
وعلى الرغم من قيادته لعملية تحرير مدينة المخا، يوم الاثنين الماضي، إلا أن قاسم لم يتحدث حتى اللحظة إلى أي وسيلة إعلامية. وتداول ناشطون خلال اليومين الماضيين صورة له رافعاً يده، رافضاً التصريح لقناة "الجزيرة"، وهو ما أكده مراسل القناة في عدن الذي أشار إلى أن قاسم لايزال يرفض الظهور الإعلامي.
في السياق ذاته، أجبرت الحرب اللواء فرج سالمين البحسني، قائد المنطقة العسكرية الثانية، على العودة إلى خندق المواجهة بعد 22 عاماً قضاها في الإمارات. قاد البحسني عملية تحرير مدينة المكلا بتشكيلات عسكرية من أبناء حضرموت، تم تدريبها في صحراء المحافظة الشرقية بإشراف سعودي إماراتي.
وبات البحسني أحد أبرز الوجوه العسكرية في شرق البلاد ويحظى بتأييد واسع، ويشترك مع رفيقه هيثم قاسم في قلة حضوره الإعلامي وهدوئه المعروف عنه، كغيره من القادة العسكريين الذين لجأوا إلى الخارج بعد حرب صيف 1994.
كما يبرز اسم محافظ عدن السابق، اللواء الركن جعفر محمد سعد، والذي اغتيل بعد نحو شهرين من تعيينه في منصبه. غادر سعد مدينة عدن إبان حرب صيف 1994 إلى القاهرة ومنها إلى لندن واستقر هناك 21 عاماً قبل أن يعود إلى الرياض للمشاركة في غرفة عمليات وزارة الدفاع السعودية مع انطلاق عاصفة الحزم. بعدها انتقل إلى عدن حيث شارك في عملية تحرير المدينة من سيطرة الحوثيين. وكان أحد أبرز القيادات التي شاركت في العملية. ونتيجة لأدواره في عملية التحرير، عيّنه الرئيس عبد ربه منصور هادي محافظاً لعدن في أكتوبر/تشرين الأول 2015. وبعد حوالي شهرين فقط من تعيينه تعرض لعملية اغتيال في منطقة التواهي.
ومن بين العائدين أيضاً قائد اللواء 19 مشاة في شبوة العقيد مسفر الحارثي. الأخير عاد من المنفى في فبراير/شباط 2015، أي قبل انطلاق عاصفة الحزم بشهر واحد، قبل أن تسند إليه قيادة المعارك في بيحان شبوة بعد سيطرة الحوثيين عليها. والحارثي كان قد غادر البلاد في عام 2008 ضمن عشرات القيادات التي خرجت بعد عمليات التسريح التي انتهجها نظام صالح ضد الضباط الجنوبيين.
بدوره عاد العقيد علي الحوثري إلى واجهة الأحداث من خلال قيادته كتيبة سلمان الحزم في عدن، والمكونة من 560 مقاتلاً، تقول مصادر إعلامية إن معظمهم من المغتربين الذين تركوا أعمالهم أثناء احتلال مليشيات الحوثيين وصالح لمدينة عدن، وقرروا العودة والالتحاق بالجبهات لمواجهة تحالف الانقلاب.
وتظهر هذه المعطيات وجود قائمة طويلة من القادة الجنوبيين الذين عادوا ووجدوا في هذه الحرب طريقاً سهلاً للانتقام من صالح. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما السر وراء هذه العودة وما الدور الذي يمكن إسناده لهؤلاء القادة في مرحلة ما بعد التحرير خصوصاً في ظل توسع النفوذ الإماراتي جنوباً.
يقول الباحث في شؤون النزاعات المسلحة، علي الذهب، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "ظروف الحرب التي مرّ بها اليمن خلال نصف قرن، كانت في العادة تستدعي القادة وكبار الضباط نظراً لخبراتهم والحاجة إليهم في سد فجوة في قيادة العمليات. وهذا الأمر ينطبق على الوضع الحالي، لا سيما مع نأي بعض القادة بأنفسهم عن الخوض في هذه الحرب، وتفرّق الكثير من ضباط الجيش السابق بين طرفي الحرب الشرعية، وتحالف الانقلاب".
وعن مستقبل القادة الجنوبيين العائدين للواجهة، يشير الذهب إلى أن دورهم بعد انتهاء الحرب سيكون محدوداً، لا سيما أن بعضهم لم تعد أعمارهم تتيح لهم الاضطلاع بمهام قيادية لفترة مستقبلية طويلة.
أما الصحافي عبداللاه سميح فيرى أن سبب عودة هؤلاء القادة العسكريين هو "استشعارهم لحجم الخطورة التي تعيشها البلاد في المرحلة الحالية، وفداحة سقوطها في مستنقع التبعية لإيران ومشروعها غير المستساغ محلياً"، على حد وصفه. ويضاف إلى ذلك، من وجهة نظره، "الرغبة الملحة لدى معظم تلك القيادات العسكرية في الانتقام العسكري من المخلوع علي صالح، الذي ألحق بها الهزيمة في عام 1994".
ويلفت سميح، في حديثه مع "العربي الجديد"، إلى أن "الخبرة العسكرية التي تتمتع بها هذه القيادات العسكرية البارزة جنوباً، إضافة إلى ولائها الوطني وثقة الرأي المحلي – جنوباً – فيها، يسهمان بشكل كبير في منحها الثقة من قبل القيادة السياسية وقيادة قوات التحالف العربي المشترك، لتقود معارك بحجم معركة تطهير عدن والمحافظات الجنوبية، وصولاً إلى المخا، على الساحل الغربي من اليمن".
ويعتقد سميح أن "النتائج العسكرية التي تحققها هذه القيادات وبشكل سريع ودقيق للغاية، ستضعها مستقبلاً في مواقع أهم مما هي عليه في الوقت الحالي، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار حالة القبول العسكري والحاضنة الشعبية التي يتمتع بها هؤلاء القادة"، على حد قوله.