بعد شهرين فقط من انتخابه عام 2012 أصدر الرئيس عبدربه منصور هادي العشرات من القرارات الجمهورية التي استهدفت إعادة التوازن للمشهد السياسي اليمني الذي خرج للتوّ من حمى صراع عنيف أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية إثر الاحتجاجات التي عمت البلاد منذ مطلع العام 2011 وأفضت لإجبار الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح على مغادرة السلطة وأتت بنائبه للواجهة المشتعلة.
كان من بين قرارات التعيين التي أصدرها عبدربه منصور هادي قرار قضى بتعيين محافظ جديد لمحافظة مأرب القبلية الغنية بالنفط، شرقي العاصمة صنعاء. ولم يدر بخلد الرئيس حينها أن هذا القرار الذي بدا عابرا لدى الكثير من اليمنيين سيكون له أثر استثنائي وعميق على مجريات الأحداث بعد ذلك بثلاثة أعوام.
كان الرجل حتى العام 2011 شيخا قبليا بارزا يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة في محافظة مأرب لكنه لم يكن معروفا في الأوساط الإعلامية والشعبية اليمنية إلا من خلال الأخبار القليلة المتداولة عن نشاطه في مجال الصلح وإطفاء الحرائق في منطقته التي عانت من غياب الدولة، ما جعل العرف القبلي هو الدستور المنظم لأمور الحياة اليومية لأبناء المحافظة والفيصل في خلافاتهم التي لا تنتهي.
ولد سلطان بن علي مبخوت العرادة في قرية كرى بوادي عبيدة بمحافظة مأرب في العام 1958 وبحكم المكانة القبلية لوالده كشيخ قبلي انخرط سلطان في العديد من الأنشطة التقليدية التي يفرضها الواقع الاجتماعي على شيوخ القبائل بصفتهم واجهة تقليدية للعمل السياسي في مناطقهم وقنوات رسمية للتواصل بين الدولة المركزية والمناطق اليمنية النائية.
درس في كلية الآداب بجامعة صنعاء وتولّى العديد من المناصب كان من أبرزها نشاطه في السبعينات من القرن العشرين كعضو لجنة التصحيح في عهد الرئيس اليمني الراحل إبراهيم الحمدي قبل أن يدخل بوابة العمل السياسي في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي كانت سياسته تقوم على استقطاب شيوخ القبائل والوجاهات الاجتماعية لتسهيل مهمة الدولة في إحكام السيطرة على مناطق اليمن.
في تلك المرحلة تدرّج العرادة في المناصب السياسية بدءا من اختياره عضوا في اللجنة الدائمة لحزب المؤتمر الشعبي العام في 1982 مرورا بتعيينه عضوا في مجلس الشورى عام 1987. ووصولا إلى انتخابه عضوا في مجلس النواب لدورتين انتخابيتين 1993ـ1997 قبل أن يقطع علاقته بحزب المؤتمر ويرفض الترشح باسمه لدورة ثالثة عام 2003.
رفض النظام والانحياز للمبادرة
انحصر الحضور الإعلامي والسياسي للعرادة في محيطه القبلي وتجاوز ذلك إلى محافظة مأرب التي ظل حاضرا فيها كأحد الوجوه البارزة التي لعبت دورا توفيقيا في حل الأزمات وإنهاء الصراعات والثارات القبلية. ولم يتجاوز العرادة ذلك الدور إلى ما سواه إلا عام 2011 حينما أعلن عن انضمامه للاحتجاجات التي اندلعت في معظم المدن اليمنية ضد الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
تعبير العرادة عن رفضه للرئيس المخلوع وسياساته يبدو أكثر وضوحا بعد إعلانه صراحة عن تأييده لـ"ثورة التغيير"، حيث تم اختياره عضوا في المجلس الوطني لقوى الثورة وكشف في الحوار الوحيد الذي أجري معه في تلك الفترة عن محاولة صالح الاتصال به واعتذاره للوسطاء قائلا لهم "الأمر لم يعد قابلا للمجاملة فالأمر جدي"
كانت علاقة سلطان العرادة قد توترت مع النظام قبل ذلك بأعوام وخصوصا بعد اعتزام الأخير استخدام القوة ضد عناصر تنظيم القاعدة بعد اتهام الأجهزة الأمنية حينها شيوخ قبيلة عبيدة التي ينتمي إليها العرادة بإيواء عناصر مطلوبة، وتحت الضغوط الأميركية المتزايدة قامت قوات الجيش والأمن بقصف منازل من ادّعت أنهم مطلوبون أمنيون يلوذون بقبيلة عبيدة وهو ما أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين.
الأمر الذي جعله يخرج عن صمته ويعلن انحيازه لقبيلته في صراعها مع الدولة، مردفا ذلك بمبررات ساقها في أحد تصريحاته النادرة في يونيو 2010 عندما اعتبر أن تعامل الجهات الأمنية في المحافظة مع ملف الإرهاب يخدم تنظيم القاعدة أكثر مما يضره، وأن سياسة السلطة تجاه ما يجري في وادي عبيدة ستجر إلى تداعيات خطيرة مذكرا بما حدث في محافظة صعدة.
بعد ذلك بعام تقريبا كان تعبير العرادة عن رفضه للرئيس المخلوع وسياساته أكثر وضوحا بعد أن أعلن صراحة تأييده لما سمّي “ثورة التغيير” حيث تم اختياره عضوا في المجلس الوطني لقوى الثورة وكشف في الحوار الوحيد الذي أجري معه في تلك الفترة عن محاولة صالح الاتصال به واعتذاره للوسطاء قائلا لهم “الأمر لم يعد قابلاً للمجاملة فالأمر جدّي، والشعب حزم أمره، ومن الصعب أن يتخلى شخص من الشعب عن شعبه وينحاز إلى شخص أو إلى نظام”.
في 23 نوفمبر 2011 تم التوقيع في الرياض على المبادرة الخليجية التي نصت على مغادرة صالح للسلطة ونقله صلاحياته لنائبه عبدربه منصور هادي، وهو التطور السياسي المفاجئ الذي أنقذ اليمن من شبح حرب وشيكة كان يخيم على البلاد مع تصاعد هائل لحدة الانقسام في صفوف الجيش والمجتمع.
انضم العرادة إلى صفوف الداعمين لهذه المبادرة من خلال التحاقه بما سمّي باللجنة الوطنية لدعم وتنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي شكلت في ديسمبر 2011. وبدا أنه انحاز لفريق من السياسيين اليمنيين الواقعيين الذين أرادوا خروج البلاد بأقل حجم من الخسائر في مقابل تيار آخر متشدد كان يصرّ على المضي قدما في “الثورة” حتى نهاية المطاف و”محاكمة” أركان النظام السابق بالرغم من الخسائر الهائلة التي كان سيخلفها هذا التوجه.
في 25 فبراير 2012 تم انتخاب عبدربه منصور هادي رئيسا لليمن وفقا للمبادرة الخليجية وغادر سلفه إلى الولايات المتحدة الأميركية لتلقي العلاج جراء مضاعفات الإصابات البليغة التي لحقت به نتيجة انفجار مسجد دار الرئاسة بصنعاء في يونيو 2011.
الصراع مع الحوثي
باشر الرئيس عبدربه منصور هادي ممارسة صلاحياته وأعاد ترتيب البيت الداخلي مستندا إلى خارطة التوازنات الجديدة. ومن بين القرارات التي أصدرها تعيين سلطان العرادة محافظا لمحافظة مأرب في 6 أبريل 2012 حيث كان هناك الكثير من التحديات الكبيرة في انتظاره. كانت خطط الحوثيين تسير كما رسموها تماما. حيث اجتاحوا العاصمة صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014 وسيطروا على مؤسسات الدولة وتجاوزوا كل حدود.
ما كان يعتقد أنه مجرد سياسة عنيفة لبسط نفوذهم حيث بدأوا بتنفيذ عمليات عسكرية من خارج نطاق مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية وانحصر تركيزهم في بادئ الأمر على المحافظات القوية القريبة من العاصمة والمناهضة ثقافيا للمشروع الحوثي المستمد من الثورة الإيرانية.
وكانت البداية من محافظة البيضاء التي وصلت إليها ميليشيات الحوثي في مطلع أكتوبر 2014 بعد إحكامهم السيطرة على العاصمة مباشرة تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وكانت الوجهة التالية محافظة مأرب الاستراتيجية شرقي صنعاء والتي تزوّد معظم محافظات اليمن باحتياجاتها من النفط والغاز والطاقة الكهربائية.
أدرك الحوثيون أنهم سيواجهون بمقاومة شرسة في محافظة مأرب واعتمدوا على خطة تقضي بمهاجمة المحافظة من غربها وجنوبها الغربي بعد السيطرة على محافظة البيضاء، كما أدركوا أن العقبة الكأداء باتت تتمثل في محافظ مأرب وفي الشخصية القبلية البارزة سلطان العرادة الذي لم يخف موقفه مبكرا من رفض الانقلاب والتمسك بالسلطة الشرعية وعدم الانصياع لسياسة الأمر الواقع التي سعى الانقلابيون لفرضها ومن أجل ذلك تم تضييق الخناق عليه بهدف إجباره على تسليم المحافظة دون قتال حرصا على عدم إلحاق الضرر بالمنشآت النفطية والكهربائية التي يراهنون عليها في تمويل خطتهم لما بعد الانقلاب.
وفي أواخر نوفمبر قام الحوثيون بحصار منزل العرادة في العاصمة واقتحموه فيما بعد، وردّ هو بدوره على هذه الخطوة بتصريح إعلامي توعد فيه الحوثيين بعواقب وخيمة إن هم حاولوا مهاجمة مأرب قائلا “نحن لا نخشى الميليشيات الحوثية وأيّ تحرّك لها باتجاه مأرب ستكون عواقبه وخيمة”، مضيفا أن مأرب تتمتع بخصوصية اقتصادية واجتماعية وجغرافية.
تشبّث العرادة بمواقفه وأخذ يحشد لمواجهة الهجوم الحوثي المرتقب على مأرب وسعى لجمع شتات القادة العسكريين الرافضين للانقلاب، كما دعّم إنشاء القبائل لما يشبه مراكز التجنيد والاستعداد القتالي وأطلق عليها مطارح “نخلا” و”السحيل” والتي أصبحت بمثابة معسكرات لاستقبال رجال القبائل المستعدين للانخراط في قتال ميليشيا الحوثي وقوات صالح التي تستعد لغزو المحافظة.
لا للميليشيات من أي جهة كانت
خلال فترة الاستعداد للمواجهة عمل العرادة على إرسال رسائل سياسية قوية تنطوي على رغبته في تحييد محافظة مأرب وقال في تصريحات صحافية “إن تركيبة مأرب القبلية لا تسمح بدخول أيّ ميليشيات من خارج المحافظة ولا تقبل أيّ نوع من الميليشيات من أيّ نوع كان، وإن مواطني مأرب يرفضون وجود الميليشيات المسلحة من أيّ جهة كانت”.
كما عبّر في تصريحات متعددة عن حرصه على أن “تبقى مأرب بعيدة عن الصراعات دون وجود أيّ ميليشيات من أيّ طرف كان، لكونها تغذي اليمن بأكمله بالكهرباء والغاز والنفط”، وهو الخطاب السياسي الذي قوبل برضى شعبي في مختلف مناطق اليمن التي خشيت من الانعكاسات الاقتصادية والخدمية في حال انتقلت المعارك إلى مأرب.
في مطلع العام 2015 حزم زعيم الجماعة الحوثية عبدالملك الحوثي أمره وقرّر خوض معركة السيطرة على مأرب عقب خطاب اتهم فيه أطرافا إقليمية بمحاولة تسليم المحافظة “للتكفيريين”، فبدأ الحوثيون بحشد جحافلهم باتجاه المحافظة مستعينين بوحدات من الحرس الجمهوري التابع لصالح كانت تتمركز في أطراف المدينة وعدد كبير من عناصرهم داخل مأرب، لكن الوقت كان قد تأخر إلى حدّ ما، فقد استكمل الطرف الآخر استعداداته المتاحة لخوض معارك عنيفة أعاقت التقدم الحوثي وقام العرادة بدور كبير في هذا السياق متسلّحا بموقفه القويّ الرافض للانقلاب على الشرعية، إضافة إلى دوره في الدفع برجال القبائل وما تبقى من قوات عسكرية مناهضة للحوثيين للمعركة.
وفي ظل استبسال رجال القبائل عجز الحوثيون عن إحكام السيطرة على مدينة مأرب رغم وصولهم إلى أطرافها، وفي إحدى تجليات الإصرار القبلي قُتل نجل سلطان العرادة في معارك الدفاع عن مأرب في أغسطس 2015 ما بعث برسالة مفادها أن وجهاء المحافظة على استعداد للتضحية بأعز ما يملكون في سبيل دحر الحوثي عن أرضهم، وهو الصمود الذي دفع التحالف العربي لاتخاذ قراره بالتدخل الميداني الحاسم الذي أفضى في نهاية المطاف إلى تحرير سد مأرب في أواخر سبتمبر 2015 والتقدم في تحرير باقي مناطق المحافظة وصولا إلى مشارف محافظة صنعاء والاقتراب من العاصمة وتحوّل مأرب بعد ذلك إلى منطلق لتحرير محافظة الجوف القريبة وأجزاء من محافظة صنعاء.
وكنوع من التقدير على الدور الذي لعبه في التصدي للانقلاب وتشبثه بالشرعية الدستورية ونظام الأقاليم الذي تمخّض عن مؤتمر الحوار الوطني في العام 2013 قرر محافظو محافظات مأرب والبيضاء والجوف التي تمثل قوام “إقليم سبأ” في أكتوبر 2016 تكليف اللواء العرادة بمهام رئاسة إقليم “سبأ” حتى يتم الاستفتاء على الدستور الجديد.