كتبت ذات مرة مقالًا في الفيسبوك، كان هذا في العام 2013، من بين التعليقات التي وصلتني كان تعليقًا من فتاة جميلة التقيتها مرة واحدة من قبل في ندوة ثقافية في القاهرة، جلسنا خلالها بجانب بعضنا، عرفتني بنفسها وعرفتها لنفسي وانتهى الأمر عند هذا الحد، بعد عامين من هذا اللقاء كتبت لي : أنتِ حكيمة! وعلى غير عادتي في المبادرة؛ وخجلي الاجتماعي الشنيع، إلاّ أنّ شيئًا ما جعلني افتح صفحتها وأرسل لها رسالة فحواها أن يا محاسن الصدف ها نحن نلتقي من جديد في الفضاء الإلكتروني، ردتْ علي فورًا وقد تذكرت لقاءنا قبل عامين ودعتني لنشرب القهوة معًا.
اتفقنا على المكان وأصرّتْ أن تمر لتأخذني، جاءتْ إلى عنواني مع أخواتها الثلاث وذهبنا إلى مكان لطيف، ذهبتُ متوقعة أن أضيف إلى رصيدي الاجتماعي سيدة راقية مهذبة ومثقفة، وعائلة أصيلة، نبيلة وكريمة يمكنني معها تبادل المجاملات في المناسبات.. ولكني حصلتُ على أكثر مما توقعتُ، أي ما يمكن للمرء أن يسميه: صداقة العمر!
نتذكر أنا وهي اليوم بعد 6 سنوات لقاءنا الأول، وكيف أننا انسجمنا منذ الوهلة الأولى، وكيف أننا ومع الوقت سقينا شجرة هذه الصداقة التي تظلّلنا اليوم، لم يتطلب الأمر الكثير من المجهود في الحقيقة، وهذا ما يجعل أي علاقة اجتماعية ناجحة ومستمرة؛ على اختلاف أنواعها، أن لا تجبرك هذه العلاقات على هدر طاقاتك، بل تغذيك، أن تكون ملجأً للدعم والراحة لا مكانًا للضغوط والخذلان، أن لا تعرضك هذه الصلة للابتزاز أو الاستنزاف.. بالطبع كان لعلاقتنا أوقاتها السيئة، لكننا في الأخير نجحنا في نِجارة خانة خاصة، تشبه الجزّامة التي تضع فيها حذاءك قبل الدخول إلى البيت، نضع فيها كل ما لا يجب حمله إلى الداخل وكل ما هو زائد عن الحاجة، لكل علاقة أمورٌ لا يجب أن تتضمنها، يستغرب الناس كيف أني وصديقتي لانعرف عن بعضنا أمورًا، ليس بالضرورة أننا نخفيها أو نخاف اظهارها، أو أننا لا نثق في بعضنا لحفظها، لكننا نعتبرها زائدة وليست من صلبها ومن الأفضل تركها في الخارج.
نختلف أنا وصديقة عمري في الكثير من الأشياء، لكنّنا لسنا أضدادًا، اختلافات لا تورث خلافات، يكذب من يقول أن الأقطاب المتضادة تتجاذب أكثر من المتشابهة، ويكذب أيضًا من يدّعي العكس، لا يمكنك أن تصنع صداقات أو علاقات دائمة مع أشخاص لا يشاركونك مبادئك العامة في الحياة أو نظرتك للصواب والخطأ، للمقبول وغير المقبول على أقل تقدير، ولايمكنك في المقابل أن تتوقع أن كل علاقة تدخلها يجب أن تكون خضراء، أن "أصفرك" لابد أن يجد له دائمًا ذلك الـ "أزرق"..
أخبرتني مرة أنها ولو رأتني بعينها أفعل الخطأ سوف تراجع تعريفها للخطأ قبل أن تصدق شيئًا ضدي، وجدتني أيضًا سأفعل نفس الشيء..اتصلتْ لي مرة تخبرني بما قاله لها رجل المختبر إثر خطأ بخصوص تحليل يظهر مرضًا بسيطًا، أجهشت في البكاء في مكان عام خوفًا على ألمها، بكت هي خوفًا علي أو حزنًا لحزني أيضًا في أوقات أخرى.. أعلم أنه لو أصابني أي مكروه أو وقعت في أي مشكلة ستكون أول من سيخطر لبالي اللجوء إليه، وأعلم أنها ستفعل نفس الشيء..
علاقتنا تمضي بمبدأ all or none، العلاقات مجموعة قيم، كحبّات المسابح المعقودة إذا انفصلت عنها حبة تساقطت منها البقية وانتهت.. لا حب دون احترام، لا احترام دون ثقة، لا ثقة دون وفاء، لا وفاء دون حرية، لا حرية دون رقي، لا رقي دون إنسانية، لا إنسانية دون رحمة، لا رحمة دون خوف على من تحب، ولا خوف دون حرص، ولا حرص دون سَند، لا سَند دون شعور بالفخر، ولا فخر دون أُنس، لا أُنس دون تفاهم وهكذا، أنت والأطراف الأخرى تصنعون سلاسلكم بأنفسكم، تقرّر أنت نوع القيم التي لا تجدي علاقاتك دونها، فإما كلها أو لا شيء.
تجد بعد مضي الوقت في صداقتك المقربة أنّ أشياءً أخرى تتكون بعيدًا عن القيم العامة التي قد يتفق عليها الناس، تفاصيل أخرى، يجد الأصدقاء المقربون طقوسًا تجعل من علاقتهم نوعًا خاصًا لا يشبه غيره، مواقفًا تجاه أشخاص أو أفكار أو حتى عادات اجتماعية، في علاقتي بصديقتي البعض منها، مثلا:
الاعتذار جيد، لكن الأفضل ألاّ تفعل ما يستوجبه.. الاهتمام رائع، لا مانع من أن تطلبه.. العتب جائز، لكن الزعل مرفوض.. النصيحة ليست سوطًا للجلد، و" قد قلت لك" ! أسوأ رد فعل على مأزق غيرك.. شياكة المظهر حلوة، الله لو كان معاها شياكة في العقل والسلوك.. الدايت أسلوب حياة، الأفكار التقدمية تبدأ من المطبخ.. هواة الانتقاد وتحطيم المعنويات، بلوك بلوك بلوك.. لما تقرر تشاركني أحزانك ومصائبك، مش منطقي تخفي عني أفراحك ونجاحك.. لا تجعل التجربة السيئة حجر عثرة؛ ولو أمام تجارب سيئة أخرى.. احذر من يفتح لك كيس حياته برباطه منذ البداية، من ليس أمينًا على خصوصيته لن يكون أمينَا على خصوصيتك.. مش حرام امرأة تمدح امرأة أخرى؛ والله مش حرام.. حب كبير لمن يرد عنك في غيبتك ثم لا يسمّم هدوءك بإنجازه هذا.. وأشياء أخرى لا يسعني المجال لذكرها إذ يفترض بهذا المنشور الطويل العريض أن يكون تهنئة بعيد ميلاد صديقتي الصدوقة رنا الحداد..
نظهر نحن في الصورة التي أخذت في القاهرة مطلع الشهر، مع 3 كيلو فلاتر، شيء من البهجة والكثير من الحب.
كل عام ورناي الحبيبة بألف خير.