الاختيار التركي الصعب في أزمة كردستان

Monday 30 November -1 12:00 am
الاختيار التركي الصعب في أزمة كردستان
- وكالات :
----------
 
دأبت حكومة العدالة والتنمية في تركيا منذ وصولها إلى الحكم إلى نزع فتيل الأزمة الكردية برؤية إستراتيجية أبعد من الواقع المرئي، والذي خلف كثيرًا من التدخلات التركية لقمع حركة التمرد الكردية سواء على أراضيها أو سعيًا خلفها في الداخل العراقي.
 
وبوصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا بدأ التعاطي مع كردستان على أنها أحد الموانع الطبيعية لتمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وعليه فقد تبلورت علاقات قوية أكدها التبادل التجاري والاستثمارات التركية في الإقليم بعد تبادل رئيس الوزراء والذي أصبح رئيسا لتركيا رجب طيب أردوغان ورئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني للزيارات وتوطيد العلاقات بتسهيل مرور منتجات كردستان وكذا التركية عبر المنافذ التركية، وتوّج هذا التفاهم بنقل نفط كردستان عبر ميناء جيهان التركي.
 
ويقدّر الاقتصاديون حجم التبادل التجاري بين الدولتين بما يقارب الأربعين مليارات دولار سنويا. ولم تكن العلاقات الاقتصادية هي المحرك الوحيد بين الإقليم والجمهورية التركية ولكن المواقف السياسية التي جمعتهما كان لها أثرًا كبيرًا على بلورة مواقف الأطراف الفاعلة في المنطقة ولاسيما الحكومة العراقية  ومن ورائها إيران.
 
إلا أن دعوة رئيس إقليم كردستان للاستفتاء على انفصال الإقليم غيَّر من نبرة التعامل التركي مع قضية الاستفتاء، وقد تكون المخاوف التركية لها مبرراتها؛ حيث أن انفصال الإقليم هو حافز للأكراد الانفصاليين في تركيا للمطالبة بالمثل، وهو ما يعني تفسّخ الدولة التركية الجامعة لعرقيات مختلفة تحت الراية الحمراء، ومن ثمّ كان رد الفعل التركي عنيفا، بدأ بالتهديد وصولا للتنفيذ بخنق الإقليم الطامح للانفصال، حتى وصل الحال بالرئيس التركي أن وصف صديقه القديم البارزاني بالخيانة واتهمه بطعنه من الخلف.
 
وانضمت تركيا إلى حلف ضمّها مع العراق وإيران لوقف نتائج الاستفتاء بعد أن تأكّدت رغبة الشعب في الإقليم بالانفصال، وتعالت القرارات سواء بغلق المنافذ أو منع الطائرات وصولا لدخول القوات العراقية كركوك المتنازع عليها بغير مقاومة من قوات البشمركة تذكر. لكنّ اللافت أن قرار انسحاب البشمركة أكد البارزاني أنه ليس قراره، إلا أنه جاء بعد زيارة قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني لأربيل منذ أيام. ومع وضع تسريبات نُقلت عن زوجة طالباني عن ضرورة وقف أية فكرة غير عقلانية لوضع أبناء الشعب الكردي في مواجهة غير محسوبة مع الجيش العراقي ومليشياته يمكن أن نفهم الصورة بأن الإيرانيين استطاعوا من خلال رجالهم داخل كردستان أن يمهّدوا لهذا القرار بعيدا عن البارزاني.
 
قد تشكّل تلك الصورة واقعًا جديدًا مفاده أن الأتراك يفقدون حليفهم في العراق، وأقصد هنا البارزاني للأبد ومن ثمّ تفقد معه عمقها التركماني بعد تدخل الجيش الطائفي العراقي ومليشياته وقيادته من الحرس الثوري الإيراني، وهو ما يعني فتح ممر آمن بين طهران وسوريا وصولا للمتوسط، وهو ما كانت تركيا تحاول منعه منذ عقود حتى لا تُعزل عن محيطها العربي.
 
كما أن تركيا بقرار استعداء كردستان فقدت خط دفاع متقدم ضد تنظيم الدولة، الذي أصبح عدوًا مباشرًا لتركيا بعد درع الفرات لاسيما بعد دخول تنظيم الدولة قريتين في دبس؛وهو ما قد يفتح لمقاتليه ممرًا لتنفيذ عمليات داخل تركيا قد يساهم الحرس الثوري في تسهيله.
 
كما أن خروج البيشمركة من المعادلة سيفتح الباب أمام عدو تركيا الأول (pkk) إلى دخول مدينة سنجار وجبل سنجار، وتحقيق حلمه في تحويله خط هجوم متقدم، وهو ما يشكل تهديدًا جادًا وقويًا لتركيا. ومن نافلة القول أن نذكر أن هذه المنطقة نظفتها قوات البارزاني وبدماء جنودها من تنظيم الدولة ومنعت (pkk) من الاستيلاء عليها من خلال حرب ضروس.
 
إلا أنه وفي المقابل يخسر الأتراك قاعدة متقدمة لهم في العراق وتحديدا في بعشيقة، طالما رفضت الحكومة المركزية في العراق وجودها فيها، وكان رد الأتراك أن وجودهم بناء على طلب حكومة كردستان، التي أصبحت اليوم في مرمى القوات التركية وسياسييها. ومن ثم فإن المبرر التركي للتواجد في العراق لتعقيم المعارضة الانفصالية أصبح غير مقبول، وهو ما يعني خسارة تركية جديدة بقرار استعداء أربيل.
 
لكن وفيما يبدو أن القرار التركي مدفوع من مؤثرات أحاول أن أتلمّسها من وجهة نظري. فحالة الإحلال والتبديل في قيادات الحزب الحاكم في تركيا والتي أعلن عنها رئيس الحزب في مؤتمره منذ أسبوعين قد تكون أثّرت بشكل أو بآخر على هذا القرار. فالحديث عن تيار قومي قوي داخل حزب العدالة والتنمية قد يكون له أثره في هذا القرار.
 
وقد يكون من الأسباب الدافعة للموقف الخشن الذي اتخذته القيادة التركية مع البارزاني مدفوعة بذلك التقارب الذي ساد العلاقة بين حزب العدالة والتنمية وبين حزب الحركة القومية الذي وقف وقفة قوية مع العدالة والتنمية في معركة تعديل الدستور في الأشهر الماضية، والذي كاد العدالة والتنمية أن يخسر رهانها لولا ذلك الموقف الداعم من الحركة القومية.
 
وأخيرًا؛ أرى أن نظرة الحزب للانتخابات الرئاسية العام القادم لها تأثير بشكل أو بآخر على هذا الموقف من البارزاني وإقليمه. فالرئيس أردوغان لا يريد خسارة أصوات القوميين الأتراك في الانتخابات القادمة، مع علمه أن أكراد الجنوب المحافظين والحافظين للرجل مآثره معهم منذ وصوله وحزبه للحكم والذي دائما ما كان يؤكد على ضرورة وحدة الشعب التركي بكل مقوماته دافعا فكرة الاستقلال إلى مربع خيانة الوطن، وهو ما يبغضه أكراد تركيا في غالبيتهم.
 
إلا أن هناك من يرى أنه كان على تركيا أن تتعامل بشكل أكثر حصافة من ذلك الذي انتهجته. فخطاب البارزاني عن دولة كردستان مختلفة الأعراق قد تكون نموذجًا أقرب إلى الدولة التركية يمكن قبولها، فكردستان التي تضم كردًا وعربًا وتركمانًا وأيزيديين وغيرهم من المكونات العرقية والمذهبية،كان من الممكن أن تهدم بها تركيا حلم الدولة كردية الانفصالية في جنوبها لصالح الدولة التركية الموحدة مع الإبقاء على موطئ قدمها في بقعة سحرية في المنطقة توقف الزحف الإيراني الذي سيهدد أمنها من خلال المكون العلوي التركي.
 
لكن فيما يبدو أن العكس هو ما حدث؛ فإيران استطاعت أن تخرج من أزمة كردستان بمكاسب إستراتيجية، يمكن للحكومة التركية أن تتداركها فيما لو سعت بشكل سريع إلى احتواء الأزمة، وقد يساعدها في ذلك الإجراءات المتراخية للحكومة أمام التصريحات النارية.
 
المصدر:تركيا بوست