أكره أن أعكر على البعض جمال الشعور بأننا محور الكون، الشعور أن الدنيا تدور من حولنا وتتوقف دوننا، هذا الشعور الذي يجعل المصريين يفكرون أن "مصر أم الدنيا" وأن لولا مصر ما تقدمت أوروبا وما تعملقت أميركا، وما حصلت البرازيل على بطولات العالم، وما نجح ميسي في صناعة أحادية القطب الكروي في إسبانيا وأنه لولا علمت مصر إسبانيا والعالم كرة القدم ما حصل الماتادور على لقب العالم..
هذا الشعور المبني على إعجاب مبالغ فيه للذات، أكره أن أوقظ البعض من أحلامه وأقول له أن هذا الإحساس أغلبه غير حقيقي وانعكاس للشعور بالضعف، كقصير البنية الذي يظل يردد "أنا طويل أنا جبار"، ليداري على قصره وصغر حجمه حتى يبدأ في تصديق نفسه أنه طويل وجبار..
أكره هذا الشعور ويمكننا أن نسير فيه إرضاء لرغبات الجماهير، وأن نشارك هذا الإحساس، لأن غياب مصر عن كأس الأمم الأفريقية لعامين متتاليين فعلا أضعف البطولة إعلاميا، في البداية ثم مستوى فيما بعد.. ولكن هذا جانب مضيء يشعرنا بالفخر ليس أكثر ولا يظهر الحقيقة.. أما الجانب المظلم هو أن البطولة ضعفت منذ فترة ونحن لا نشعر أيام كانت فيها مصر، وظهر الضعف بغياب مصر لأنها كانت آخر أوراق التوت التي كانت تخفي عورات الكرة الأفريقية.. كيف؟!
2006، 2008 و2010، نحصد لقب البطولة، عن جدارة أحيانا وعن حسن حظ أوقات وبعض الأحيان لغباء من الآخرين، 3 بطولات متتالية نظرنا لمنتخب مصر وكيف يعبر الفرق جميعا ويصل للنهائي بطريقة ملحمية، فرحتنا بالفراعنة واجتيازهم الصعاب جعلتنا ننسى أو نتناسى تقييم البطولات فنيا، وإدراك أن أمم أفريقيا تنهار سنة بعد سنة، بوجود مصر أو غيابها.. ولنسترجع شريط الذكريات..
هل كانت كأس الأمم 2006 في قوة بطولة 2004، وهل كانت 2008 في نفس مستوى 2006، وفي 2010 كيف اجتزنا فرقا ذات أسماء رنانة في طريقنا نحو اللقب بسهولة ما أغربها وما أعجبها، وعندما غبنا في 2012.. هل الفرق ذات الأسماء الرنانة هي من حصدت اللقب؟ لا بل حصلت عليه زامبيا التي عبرت كل الفرق وتجاوزت الأفيال في النهائي.. ألم يكن ذلك منبها يقول أن كأس الأمم تنهار تحت أقدام الكبار؟
كان منبها قويا والدليل غياب فرق مثل الكاميرون ومصر والسنغال، وخروج فرق تونس والمغرب والجزائر من الدور الأول، حتى نيجيريا أصبحت خيال مآتة ليست نسورا ولكنها حمائم تحاول إثبات أنها جوارح.. حتى ساحل العاج وغانا لم تقدم المستوى الذي يكافئ تاريخهم.. وزامبيا حاملة اللقب خرجت من الدور الأول، فصعدت أسماء مثل كيب فيردي (الرأس الأخضر)، وغيرها من الفرق صغيرة الاسم معدومة التاريخ.
الحقيقة أن كأس الأمم الأفريقية يتم اغتيالها منذ سنوات عدة ولا أحد يلتفت أو ينتبه، والأسماء الرنانة التي صنعت تاريخ البطولة، كانوا من أبناء القارة السمراء ولكن القارة هجرها أهلها من الموهوبين والنوابغ، واستحوذت منتخبات ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، على النوابغ وجنستهم من الصغر فأصبحوا يمثلون دولهم الأوروبية ونسوا أصولهم الأفريقية، فزادت الفجوة بين أفريقيا وأوروبا، وتراجعت مستويات منتخبات غانا منجم المواهب، ونيجيريا صاحبة الصولات والجولات، ودول الشمال الأفريقي الجزائر والمغرب وتونس.. وأصبح لكل من هذه الدول لاعبين يرتدون قمصان فرق أوروبية، خضيرة التونسي في ألمانيا، وبواتينغ الغاني يجاوره، وفي إيطاليا الغاني بالوتيللي، وفرنسا صانعة بنزيمة وسمير نصري وغيرهما من العرب، وأسطول الأفارقة.. وكذلك في أفيلاي وبلحروز غير سمر البشرة الذي يغرقون المنتخب الهولندي.
كأس الأمم الأفريقية يجرف منذ سنوات، وكانت مصر هي بارقة الأمل الوحيدة لأن يد أوروبا لم تطلها، ولكن يبدو أنها بدأت تطولها، وأصبح لدينا شعراوي وها نحن نسقط مثل كل الدول الأفريقية..
قد يكون الأمر غير مدبر وقد تكون الهجرة الأفريقية قرفا وزهقا من "الحرامية" والأفاقين والفاسدين في دول القارة السمراء، ولكن سواء كان مدبرا أو غير مدبر فالنتيجة واحدة هي أن أفريقيا تم تجريفها من المواهب والمونديال الأفريقي يضعف سنة بعد سنة.. سواء بوجود مصر أو بغيابها.. وللقارئ أن يظن أن مصر فقط من أوقعت كأس الأمم إذا أراد أن يصدق ذلك.. وله أن يقتنع أن أفريقيا بأكملها تجرف بمصر أو دونها..