فُصـوص النصـوص

Wednesday 26 August 2020 9:56 am
----------
كثيرون هم الأدباء الذين تتم الكتابة عنهم ( أي عن أعمالهم ) من دون أن يعرف من يكتب عنهم شخصياتهم الحقيقية وتفاصيل هذه الشخصيات . حتى أنهم أحياناً لا يدرون ما جنس هذا الأديب . مرةً كتب أحدهم عن الشاعر والكاتب السوري المهاجر نوري الجرَّاح باعتباره أنثى !
فمن البدهي اذا ما رحتَ تكتب عن أعمال أديبٍ ما ، فليس بالضرورة أن تعرف أشياء ذات قيمة عن جوهره الشخصي أو واقعه أو تفاصيل حياته اليومية . ولكن ثمة أدباء يكون من الرائع أن تعرفهم شخصياً ، فيما أنت تقرأ أعمالهم أو تكتب عنها . وأنا شخصياً ممن يؤمنون بأن شخصية الأديب مرآة عمله أو الوجه الآخر لنصوصه . ويكون من الجميل في حياتك أن تعرف أمثال هؤلاء الأدباء ، ومن الأجمل أن تُصادقهم .
وأنا أحب الكتابة عن نصٍّ ما ، أعرف صاحبه جيداً . في المنهاج النقدي السائد يكون هذا الكلام خاطئاً تماماً ، ولكنه في منهاجي الخاص جائز ومُستحَب . وتزداد قناعتي بهذا الرأي ، فيما أنا أقرأ كتاباً للأديبة الشابة صفاء الهبل ، ثم فيما أشرع في الكتابة عنه وعنها .
لصفاء كتاب صدر في العام المنصرم ، عنوانه " ثلاثون حرباً وحب " مُتضمّناً نصوصاً مكتوبة بلغةٍ سلسة ومتينة في آن ، ألهمتها أياها تفاصيل الحرب الدائرة في هذي البلاد حتى هذه اللحظة . ( هامش : سبق لصفاء اصدار رواية بعنوان " قدري فراشة " في العام 2013 م ) .
" منذ زمن وأنا ظلٌّ مُجرّد ..
سكونٌ في حضرة العتمة ..
فلماذا كل هذه المسامير لتدّقها بين أصابعي !
اِستمر في دقّها ..
اِنهك كتفيك
فليس لي وجعٌ ،
ولستُ أنسى أبداً " . قالت صفاء .
كانت الحرب الدائرة اليوم منذ نحو ستٍّ من السنوات - ولازالت - مصدر زادٍ أدبي واِلهامٍ فني لعديدٍ من أدباء وكُتَّاب وفناني هذا البلد ، وصفاء احداهم . ومن تجارب الحياة والأحداث الكبرى فيها خَبُرنا أن الشعوب الحية وحدها هي التي تُحيل مصائبها العظمى الى ينبوع ابداع وشلال خيرات ، وأن الأدباء والفنانين هم خير من يترجم هذه القدرات الفذّة لدى شعوبهم ، بانعكاسها عبر أعمالهم المتجسدة في الكتاب واللوحة والمنحوتة والمعزوفة .
ان تفاصيل الحرب اليومية يشيب لهولها الولدان ، فيما تمنح المبدعين تجارب حياة خاصة ورؤى معجونة بمعاناة ذاتية في مصهر الوجع الجمعي ، كانوا يحتاجون الى عشرات السنين لمعرفتها واختبارها واكتسابها ، لو لم تمر بهم الحرب فتختزل تجارب السنين في أيام وتختصر رؤى العمر في لحظات . وهذا ما أصابني ليس بالدهشة فحسب ، بل وبالرعب أيضاً ، وأنا أقرأ نصوص الحرب لدى صفاء ذات الربيع الثلاثيني ، كيف ظلَّلتها غيمة خريفية داكنة ، تسري خلالها أطياف ودفقات وجدانية ، امتزجت بمفاعيل هذه الحرب ، فانسكبت قهوة شديدة المرارة في الفم ، وتصدعت خرائب بالغة التهدم في الروح ، وتصاعدت دخاناً كثيفاً في الوجدان !
" منذ بداية الحرب وأنا أتشبّث بفكرة الحياة لا الوطن ، فالحياة التي تحُفُّنا من كل جانب بحدّ ذاتها وطن ، تُشبه الى حدٍّ بعيد وشاحاً تحيكه الجدَّات بدفء قلوبهن وأيديهن .. يصنعن الماضي والحاضر بحكايات ، ونحن نعيش الحكاية ".
" تحبني على مهل !
أحبك على عُجالة !
فالوقت الذي يمضي لا نعيشه مرتين
كم من المرات سأطرد خوفي من الطائرات بذراعيك !
كأنَّ قلبي طفلٌ صغير يحمل الحلوى ، يحوم خلفه الذباب ، ما أن أجدك حتى أقفز الى حجرك قفزة المُتلهّف لا الخائف " .
" ربما لن أستطيع مجاراة تساؤلاتي لو عدتُ سنوات الى الوراء . عشر سنوات تساءلت فيها كثيراً بأيّ روح سأسكن الثلاثين عاماً ؟
بأيّ عقل سأُفكّر بالثلاثين عاماً ؟
قررتُ خلالها أن أستقبل الثلاثين كحقبةٍ جديدة .. حياةٍ جديدة أعيشها بكل ما فيها لدرجة أني سأتلمّس أيامها وأرسم بعقارب الساعة زمناً متنوع الأمزجة 
لستُ أهذي ..
شغف الثلاثين ..
وحين أعود الى الوراء ، لا أعود حباً في الماضي ، لكنّي وعدتُ الشجرة التي سأدفن تحتها أن أموت فتيَّةً كما زرعتها لأول مرة ، لذا ساعدني الزمن لأبدو فتيَّة رغم تقدمي في السن " .
هكذا كتبت صفاء ، بل هكذا كُتِبت .
" ثلاثون حرباً وحب " كتاب مزدحم بصورٍ شتى وحالاتٍ مشتليَّة من بورتريهات الحب في زمن الحرب ، ومن بروفايلات الكارثة التي عيشها المواطن اليمني اليوم جراء تداعيات وانزياحات هذه الحرب الملعونة ، بما ألقته من أثقال بالغة الوطأة وشديدة الكآبة على ناس هذي البلاد ، حتى وانْ صادمتها حالات حب عصية على الانصهار تحت جمر المعارك أو حالات كتابة تأبى الانهراس تحت أقدام المتقاتلين .. فيما تتداخل كلها هنا في سنوات عمر صفاء نفسها ، بما تضطرب داخلها من حالات حب وحرب .. وكتابة .
" أكتبُ .. أكتبُ .. أكتبُ ،
عاطلة عن كل شيء عدا الكتابة ..
لم أنجز شيئاً حتى الآن ..
فقط أجزُّ أظافر الحزن بالحرف ، وحين أنتهي من جدولة شعري ، أُزيّنها بوردةٍ تخيّلتها في لقيا المُحبّين .
لا شيء يشي باضطراب نبضي سوى ارتباك حروف العلّة بين جملةٍ وأخرى ..
أقترب من الثلاثين .. ومازلت أبحث عني !
ثلاثون عاماً والحرب في ذروتها بيني وبيني ، ومازلت أشبهني في المرآة " .
وصفاء الهبل من الكائنات الجميلة النادرة التي مزجت القول بالفعل والجمال بالخير والروح بالواقع ، في أتون هذه الحرب ومعاناتها الجمعية . فهي الى جانب كتابتها النص الأدبي البديع ، راحت تكتب نصاً رائعاً من نوعٍ آخر ، انسانياً وايجابياً وخيِّراً ، خارج المنبر العاجي والقلعة البلاستيكية والظاهرة الصوتية التي يرجمنا من خلالها بعض المثقفين في أوقات الحروب والنكبات والشدائد !
فقد أسَّست هذه السيدة الشابة ورَعَت مبادرة خيرية أسمتْها " كُنْ ايجابياً " أعرف أنها أطعمت وكست وعالجت وأمّنت حالاتٍ كثيرة في أوساط المحتاجين والمنكوبين جراء تداعيات هذي الحرب الكارثية القذرة . ( هامش : أحالت صفاء ريع كتابها لصالح أنشطة هذه المبادرة ) .
ألم أقُل لكم قبلاً أن ثمة متعة استثنائية في الكتابة عن أدباء قولهم كفعلهم وشخوصهم كنصوصهم ، تزخر بالحب والخير والجمال . ولهذا يكون من الرائع أن يغدو النص هو الشخص ، وبالعكس . وهنا فقط يشعر المرء بأنه يكتب عن قيمة أكبر من حدود النص وأعمق من كُنْه الموضوع .. عن فصوص النصوص أو عن أنسنة  المواضيع .
------------------------
(  مقالي في موقع : بلقيس  )