تسعون يوما في قصر السلطان

Monday 30 November -1 12:00 am
----------
 
كيف ساقتني الأقدار وجّرت قدميَّ إلى بلاط صاحبة الجلالة؟!
كان الصيف حاراً .. وكنت في الإجازة السنوية لطالب في الثاني ثانوي .. وكزملائه الآخرين الذين يبحثون عن عمل في الإجازة وأغلب الأعمال كانت عضلية .. كالعمل في المملاح .. أو في المصانع .. وكل ذلك من أجل لقمة العيش.
لا أدري كيف اتجهت إلى مدرسي في اللغة العربية طالباً العمل في الإجازة .. وكانت إجابته ما رأيك أن تعمل في صحيفة (14 أكتوبر)؟ وأغراني هذا الكلام خاصة وأنني نشرت فيها قصيدة نالت حظوة من قبل الصحيفة ونشرتها في صفحتها الأولى.
 
 
بعد عدة أيام، وجهني الأستاذ فيصل صوفي للذهاب إلى مقر الصحيفة، حيث كان مقرها في قصر السلطان في الرزميت لمقابلة مدير تحرير الصحيفة حينها .. فشل سعيي في اللقاء به أكثر من عدة أيام، وفي يوم صيفي حار قد تجاوزت الساعة الواحدة ظهراً .. وجدت الشخص المطلوب ودخلت مكتبه المكيف والمتواضع .. وقال لي: ما عندك؟ قلت له: جئت من طرف الأستاذ فيصل صوفي .. قال أهه .. ماذا عندك من كتاباتك؟ .. اخرجت مخطوطة شعرية.. ورأيت مدير التحرير يقوم بتصحيح الكلمات وتنقيط التاء المربوطة .. وفجأة قال لي: أنت نشرت عندنا قصيدة قبل عام (ويقصد عام 1976م) قلت: نعم.. سلمني المخطوطة.. وقال: من غدٍ ستكون في القسم الثقافي عند الأستاذ شكيب عوض .. كان ذلك إحدى ظهيرات يونيو 1977م.
أما مدير التحرير .. فلم يكن سوى الأستاذ محمد عمر بحاح .. الصحفي والقاص والأديب الذي لا يذكر من قصتي هذه شيئاً بحسب ما أفادني فيما بعد!
كان محمد عمر بحاح واحداً من الشباب المستجد في صحيفة (14 أكتوبر) .. وهذا كان مقارنة مع جيل المؤسسين.
كان بحاح ومعه الأستاذ محبوب علي سكرتير التحرير من الشباب الذي استلم ادارة التحرير، ويعدان توأمين في العمل الصحفي .. ولكل واحد منهما خصاله وسماته الخاصة.
البحاح أميل إلى الجدية والهدوء .. ومحبوب أميل إلى الانفتاح والعشرية.. وكانت صحيفة أكتوبر في هذا الزمن من عام 1977م قائمة على كاهلهما في الادارة التحريرية للصحيفة.
ما أتذكره حينها، كان في الأخبار الأساتذة علي الضحياني، وعلي بارادم، ومحمد عبدالله مخشف .. والقسم الرياضي يرأسه الأستاذ محمد عبدالله فارع ومعه ثلة من نخبة الصحافة الرياضية ومنهم حسين يوسف، وفي ادارة التحقيقات أذكر الأستاذ عمر باوزير وفي الشؤون العالمية عبدالله عبدالاله، وفي الأرشيف ألطاف محمد عبدالله، وسعاد باسكو، وفي القسم الثقافي كان هناك الأستاذ شكيب رئيساً للقسم وعضوية الشاعر محمد النعمان، والشاعر محمد قاسم مثنى.
هؤلاء من أتذكرهم ..
عندما وطئت قدماي الصحيفة كصحفي مساهم بثلاثمائة شلن، جاء معي كمساهمين الزميلان الشاعر عوض الشقاع والصحفي اللامع حسن قاسم، وبدأت حياتي الصحفية بالصدفة وبحثاً عن لقمة العيش .. لكن مع ميزة خاصة.
أتذكر جملة قالها الزميل اليوسفي رئيس تحرير صحيفة (الجمهورية) بعدها وأنا مدير للتحرير عام 2007م، أنت وأنا من بعدك دخلنا الصحافة من باب الثقافة.
أتذكر هذه اللمحة المضيئة .. اننا دخلنا الصحافة كمبدعين وأدباء .. نكتب الشعر والأدب .. ونمارس الكتابة الأدبية، ولم نكن نطمح أن نكون في يوم من الأيام محررين أو مخبرين صحفيين .. ولم يكن يعنينا كتابة الخبر .. بقدر ما كان شغفي الخاص كتابة المقالة الأدبية، وصحافة الرأي في الصفحة الأخيرة متناولاً القضايا الانسانية والاجتماعية.
وقليلاً .. قليلاً أخذتنا الصحافة من الفرجة الثقافية إلى الادارة الصحفية البحتة.
 
**
أعود للأستاذ محمد عمر بحاح، فهذا الرجل نقش في ذاكرتي درساً اصبح جزءاً من تكويني الشخصي.. وهذا الدرس يتلخص في: فراسة القائد في اكتشاف موهبة الشباب، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل المغامرة في تحميله المسؤولية المتجاوزة للسن وللعرف السائد .. ما دام الذي يقف أمامك موهبة تعلم انها قادرة على تجاوز سنها .. وصنع المسؤولية!!
هذه فراسة لا يمتلكها كل قائد عمل .. رئيس أو مدير أو سكرتير في الصحافة أو في أي مرفق آخر ولكنها حدثت في بداياتي في الوظيفة مساهماً في الصحيفة.
وهذه قصة ما حدث:
حدث انه في أحد الأيام أن طلب مني الأستاذ شكيب عوض رئيس القسم الثقافي مادة ثقافية، فكنت في ساعة واحدة أصبّ صبّاً مقالة عن ندوة في المسرح ألقاها بالأمس الشاعر اليمني الكبير عبدالرحمن فخري، وبغضون ستين دقيقة انقل حديث الشاعر وأعلق عليه .. ما أثار دهشة الأستاذ شكيب وزملاء آخرين.
في اليوم التالي .. وأنا أقرأ تغطيتي الثقافية .. طار جنوني وانتفخت أوداجي .. وعلا صوتي على الأستاذ شكيب .. ما هذا الذي عملته أستاذ شكيب؟.. قال: لا شيء .. المقالة ثقيلة فأعطيتها عناوين فرعية.
وبطيش الشباب .. قلت للأستاذ شكيب: من اعطاك الحق في التدخل في موضوعي .. أنا من عالم وانتم من آخر، عناويني ثقافية أما عناوينك فلهجتها مصرية ومن وحي الأفلام.. وطار غضبي لينتقل في كل ارجاء القصر، حتى جاءني الأستاذ بحاح .. قائلاً لي: ماذا حدث؟ .. فقلت: حصل كذا وكذا.
أخذني من كُمي وسحبني إلى مكتبه، وأنا أستشيط غضباً .. ليقول لي: من اليوم وصاعداً ترسل مواضيعك إلي مباشرة، ولا تسلمها لأحد!!
وبعد يومين .. وأنا في مكتب مدير التحرير .. قال لي بحاح: ما رأيك أن تعمل ضابط نوبة في الليل!
وافقت على طول، كان حينها من يكون ضابط نوبة، فهو لا يكون رئيسَ تحرير آمراً ناهياً على الصحفيين والفنيين المناوبين، بل يكون رئيس جمهورية .. لأن البلاد لا تعرف إلاَّ صحيفة واحدة .. وبوسع ضابط ان يضع مانشيتاً يحدث انقلاباً في البلاد.
أغرتني هذه المعلومة التي تلقيتها من زملائي الصحفيين الكبار .. ومن هنا كانت الموافقة على طلب البحاح بتحمل مهام ضابط نوبة .. وهي ما توازي اليوم سكرتير التحرير.
ومن يومها .. عملت ضابط نوبة ابن التاسعة عشرة من العمر، أقود صحفيين وفنيين بعضهم اعمارهم تتجاوز الخمسين عاماً.
في العمل ضابط نوبة .. تعلمت الكثير والكثير من ابجديات الصحافة .. فأنت مطالب بإجازة الصفحات للنشر .. والاشراف على اخبار الصفحة الأولى .. تعلمت معنى المانشيت .. والعنوان الخبري والخبر المهم وقبله الأهم .. معنى التراتبية في النشر بحسب المسؤولية .. وهذا ديدن الصحافة الرسمية يومها.
كانت ثقافتي المتواضعة .. ولغتي الأدبية .. وحسن الاستخدام التعبيري والنحوي في اعادة صياغة العناوين .. واختصارها .. واختيار الأفضل منها..ثقافة صحفية فنية تعلمتها أنا ابن التاسعة عشرة من العمر .. ولم يكن يهمني قلة خبرتي في الحياة وفي الفهم السياسي للحياة السياسية يومها .. وكل ذلك في صحافة تعتمد على الصف اليدوي من الرصاص وصعوبة التغيير في العنوان وفي أشكال الأخبار.
وفي النهاية تعلمت  فن المسؤولية .. كان عليك أن توقّع على كل صفحة تجيزها للطباعة وتُحفظ في دولاب حديدي.
في هذه الفترة كانت حادثة مشهورة راح ضحيتها عدد من الصحفيين بالسجن .. بسبب اختلاط كلمات عن اسعار الخضار في خبر سياسي.. وكانت هذه الحادثة تشعل في رأسي الاحساس بالمسؤولية وعدم الوقوع في الغلط.
وفي أول يوم للعمل ضابط نوبة (سكرتير تحرير) كان ابن (19 عاماً) اجتاز أول اختبار حقيقي في عالم صاحبة الجلالة .. وكان في استقبالي مدير  التحرير اثناء الاجتماع الصباحي اليومي لتقييم صدور العدد.
 خطان متناقضان: استنكار وغضب من مجموعة من المحررين الرافضين ان يكون قائدهم في سن الـ (19)، وكلمة بلسم في حياتي الخاصة ودرس في حياتي العامة .. قالها البحاح في وجه الرافضين لتكليفي بمهام ضابط نوبة كشاب لمّا يتجاوز العقد الثاني.. واصواتهم لم تستح من وجودي وأنا الشاب الخجول .. بل تصم أُذنيَّ بالرفض والاستنكار.
قالها بحاح لصحفي رافض على رأس الاجتماع: عندما تكون بموهبة (نجيب) الشاب الذي تستنكر قيامه بمهام ضابط نوبة تعال وطالبني أن تكون ضابطاً لقيادة النوبة الليلية.
اليوم وأنا استرجع هذه الذكريات أتساءل: من اين جاء البحاح بكل هذه الثقة المفرطة بشاب مثلي ليحملني مسؤولية صحفية وسياسية تتجاوز سني بأحمال ثقيلة.
وأعود اليوم وأقول: انها فراسة القائد في قراءة الموهوبين ومنحهم الثقة في ان يستخدموا هذه الموهبة في مسؤوليات لا تخطر للسابلة على بال.
هذا أهم درس علمني اياه الأستاذ محمد عمر بحاح في حياتي الخاصة والعامة .. في حياتي المهنية والوظيفية أن تكون على قدر المسؤولية في فراسة قراءة الموهوب .. وعدم التواني في استخدام هذه الموهبة في العمل والوظيفة والحياة.
درس غني لازلت أحمله معي وأنا الآن في سن الكهولة: أن تقرأ جبين الموهوب وعدم التردد في منحه المسؤولية.
لولا هذه اللمحة المتسامية لمدير تحرير وقائد عمل ذي ذكاء وفطنة يتعدى المحسوب والمقاس على الواقع ليكتشف أين يجد الموهبة ويصقلها بالعمل والمسؤولية.. لما كنت ضابط نوبة وأنا في التاسعة عشرة .. أي انني كنت رئيس جمهورية أو على الأقل رئيسا للتحرير في هذه السن اليافعة بحسب افادات الزملاء المحررين في تضخيم معنى المسؤولية.
 
****
حكايتي مع البدايات الصحفية لم تتعد ثلاثة أشهر في الوظيفة مساهماً ثم سارت عمراً متواصلاً من العام 1977م حتى عامنا الحالي 2019م .. عمر مديد وغني .. وصدفة البحث عن لقمة العيش تقودك إلى الجلوس على أحد كراسي بلاط صاحبة الجلالة.
وفي كل مرة أذكّر نفسي: (دخلت بلاط الصحافة من باب الثقافة).. ففي هذا المدخل إفادة في فهم الصحافة كمنظومة ثقافية، وليس عملاً مخبرياً .. لمخبر صحفي .. يسجن نفسه في أفق كتابة خبر .. أو عمل عنوان .. وانما في فهم أعمق لمعنى الصحافة ووظيفتها ودورها في الحياة العامة .. وفي تكوين الرأي العام، وفي دورها التثقيفي والتنويري.