قبل عامين تقريباً كان يتحدث مدير عام مديرية المكلا الأسبق الأستاذ / سالم بن الشيخ أبوبكر بأنه سيجعل من مدينة المكلا سنغافورة جديدة ! قلت في نفسي وقتها بأن الرجل يعرف جيداً كيف كانت حالة سنغافورة حتى ستينات القرن الماضي ، وقرأ كثيراً عن ذلك الزعيم الذي أرتقى بها، فرأى في نفسه بأنه من سيكرر تلك التجربة هنا في المكلا، وقبل أشهر ، وتحديداً في رمضان الماضي ، أنتشرت في مدينتنا المستنقعات المائية بسبب الأمطار ، مما تسبب في كثرة عدد الحشرات خاصةً الذباب ، والبعوض، وقبل كل ذلك بثلاثة عقود ، ومنذ مايسمى بيوم الوحدة إلى يومنا هذا ساد الفساد مجتمعنا وتفحش !
ما لايعرفه الكثيرون بأن سنغافورة حتى ستينات القرن الماضي كانت مجرد جزيرة ، صغيرة ، فقيرة ، تعيش نفس واقعنا الذي نعيشه ، ولن أبالغ إذا ما قلت أسوأ ! فكنت جزيرة الفساد ، والمستنقعات ، و البعوض، والجهل .. الأمر الذي دفع بماليزيا لطردها من الاتحاد الماليزي وأعلن التخلي عنها ، وطالما ذكرت ماليزيا ربما أكثرنا يعلم بقصة " مهاتير محمد " وكيف نهض بها ، لكن ثمة شخصية أخرى وطنية ، ومخلصة ، ذا عقلية مميزة ، نهض ببلده ، وانتشلها من الحظيظ .. سنتعرف عليها في أسطر المقال ، فيوم أعلنت ماليزيا طرد سنغافورة من اتحادها ، بكى حاكم سنغافورة على شاشة التلفاز أمام شعبه ، وتألم كثيراً من قرار الطرد .
ولكن كما يقول الأديب المصري توفيق الحكيم : " لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم" ، فهذا الألم العظيم، وهذا القرار المهين ، دفع ب " لي كوان يو " إلى أن يخطط ، ويفكر ماذا عساه أن يفعل لينهض بتلك الدولة الصغيرة، الفقيرة ، الخالية من الموارد المعدنية ، والثروات النفطية ، والتي أستشرى الفساد فيها كل مفاصل الدولة ، ووصف لي كوان يو في مذاكرته تلك المرحلة قائلا ً:
إلى أي درجة كانت سنغافورة الستينات قاسية فقر، ومرض، وفساد ، وجريمة ، بيعت مناصب الدولة لمن يدفع ، خطف الشرطيون الصغيرات لدعا** الأجانب ، وقامسوا اللصوص فيما يجمعون ، أحتكر قادة الدفاع الأراضي والأرز ، وباع القضاة أحكامهم ! قال الجميع الإصلاح مستحيل ، لكنني التفتت للمعلمين ، وكانوا في بؤس ، وازدراء ، ومنحتهم أعلى الاجور ، وقلت لهم " أنا أبني لكم أجهزة الدولة ، وأنتم تبنون لي الإنسان !
فبدأ لي كوان بالتعليم أولا ً ، فأهتم به كثيراً ، وأعطاه الأولية ، ورفع مكانة وقدر المعلمين، حتى أصبحوا هم أصحاب الطبقة الأرقى في المجتمع ، وفي هذه لنا الدروس ، والعبر ، لايمكن لأي دولة أن تنهض ، وتنتشل نفسها من واقعها المرير ، والمزري ، بدون أن يكون التعليم هو الأولية .. وشخصياً لم أقرأ عن دولة نهضت وتعليمها متدني ! و قد كان يقول مانديلا :
" التعليم هو أقوى سلاح يمكنك إستخدامه لتغيير العالم ! "
ثم حارب الفساد الذي أعتبره "هادم الدول " كما حارب المحسوبية ، ورفع شعاره الشهير " البقاء للأكفأ " ، وركز على الإقتصاد فبنى وشيد المصانع ، وعمل على جذب الإستثمارات العالمية .
وماهي إلا عقود قليلة حتى قاد لي كوان يو سنغافورة لتصبح من دولة صغيرة من دول العالم الثالث إلى دولة من دول العالم الأول ! ومن دولة فقيرة جداً إلى دولة يتمتع مواطنيها بمعدل دخل مرتفع جداً ، وإقتصاد قوي ، لدرجة أنه يقال بأن سنغافورة أقوى عاصمة إقتصادية في العالم ! ومن ضعف ، وهوان ، وطرد إلى دولة يعتبر جواز سفرها من الأقوى عالمياً ، ومن فساد مستشري إلى دولة من أقل دول العالم في نسبة الفساد !
وبالرغم من كل تلك الإنجازات العملاقة التي حققها لي كوان يقول " أنا لم أقم بمعجزة في سنغافورة ، أنا قمت بواجبي فقط نحو وطني ".. حتى أستقال من منصبه في العام 1990 بعد أن قام بواجبه نحو وطنه ، وتوفي عام 2015 .
فلله درك يا لي كوان يو ، فالناس في وطني يقدسون حكام لم يجلبوا لهم إلا الفقر ، والذل ، والحروب ، والغلاء !
ناصر بامندود