نشر الكاتب البريطاني المخضرم، ديفيد هيرست، مقالا تحدث فيه عن "الموجة الثانية" من الربيع العربي، التي ظهرت ملامحها في السودان والجزائر.
ونشر هيرست مقاله في موقع "ميدل إيست آي" مقالا بعنوان "هل حل بنا الربيع العربي الثاني؟ مصر هي اختبار الثورة بالشرق الأوسط"، تحدث عن الأمل بالإطاحة في الديكتاتورية بمصر.
وفيما يلي نص المقال الذي ترجمته "عربي21":
كانت مصر هي المكان الذي سحقت فيه الموجة الأولى من الربيع العربي، وستكون مصر هي المكان الذي سيقضى فيه على الدكتاتورية التي جاءت بعد الربيع.
خلال أربعة وعشرين ساعة وفي خضم كم من الأحداث المتسارعة تمت الإطاحة في السودان بالرئيس ثم بوزير الدفاع ثم برئيس المخابرات.
كان عمر البشير، وبوصفه رئيسا، صاحب سلطة مطلقة طوال ثلاثة عقود. أما عوض أحمد بن عوف، وزير الدفاع الذي أذاع خبر القبض على البشير وأعلن أن البلاد ستدار من قبل العسكر لمدة عامين، فلم يصمد أكثر من أربع وعشرين ساعة.
وأما صلاح غوش، والذي كنت قد كشفت عن أنه تباحث مع رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن في شهر فبراير / شباط، فما لبث سريعا أن لحق به رغم أنه كان خيار السعوديين والإماراتيين والمصريين كزعيم مستقبلي للبلاد.
الدرس الذي تم استيعابه
تحافظ الانتفاضة على توازن دقيق. وعلى النقيض من ثورة الخامس والعشرين من يناير / كانون الثاني 2011 في مصر، لا تتصدر الجزيرة المشهد. ومنذ شهور واستخدام الإنترنت مقيد بينما تخضع الصحف للرقابة المشددة. ووسائل الإعلام العالمية غائبة.
والتوثيق الوحيد للمسيرات الحاشدة، والتي استمرت في الشوارع لما يقرب من أربعة شهور، هو ما صوره النشطاء بهواتفهم النقالة. أما النساء فكان دورهن رائداً طوال الاحتجاجات.
من المقرر أن يستمر الاعتصام أمام وزارة الدفاع في الخرطوم إلى أن يتشكل مجلس انتقالي مدني، فالوجوه الجديدة للجيش، والذي مازال ممسكا بزمام الأمور، لا يثق بها كثير من الناس.
يبدو حتى الآن أن المحتجين السودانيين تعلموا درسا من إخفاقات مصر في عام 2011، ولم يعودوا يهتفون "الشعب والجيش يد واحدة"، لأنهما في كثير من الأحيان ليسا كذلك.
لا يثقون أن بإمكان كبار الشخصيات في الجيش ولا أي شخص من النظام القديم التأسيس لمنظومة جديدة، وحق لهم ألا يثقوا. لا يتطلعون إلى الخارج طلباً للدعم، لأنهم يدركون أنهم لوحدهم.
وكذلك الحال في الجزائر حيث عقد المتظاهرون العزم على ألا يسمحوا لأحد بحرفهم عن المسار.
يستمر مئات الآلاف من المتظاهرين في المطالبة بمحاسبة السلطة، وهم لا يثقون في ذلك بقدرة عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الأمة والرئيس الانتقالي على القيام بهذه المهمة.
سيبقى بن صالح في السلطة حتي موعد الانتخابات المقرر في الرابع من يوليو / تموز. أما قائد الجيش الجنرال أحمد قايد صالح فتحول بين عشية وضحاها من داعم وفي لبوتفليقة على مدى خمسة عشر عاماً إلى الرجل الذي يزعم بأنه سيضمن "شفافية ونزاهة" الانتخابات القادمة.
إلا أن إلقاء القبض على مائة وثمانين شخصاً يوم الجمعة بعد المصادمات التي وقعت مع "متسللين" يقول غير ذلك.
في كل الأحوال يبدو أن المتظاهرين في السودان وفي الجزائر تعلموا دروسا مهمة من الموجة الأولى للربيع العربي في عام 2011.
ربيع عربي مسترجع
أما الدرس الأول فهو أن الربيع العربي لم "يمت" لا في مصر، حيث ذُبح ما يزيد عن ألف شخص في يوم واحد في القاهرة داخل ميدان رابعة في أغسطس / آب 2013، ولا في الحرب الأهلية في سوريا، والتي بدأت، وعلينا أن نتذكر ذلك جيدا، باحتجاجات سلمية انطلقت في درعا.
ظل جمر الثورة الشعبية متوهجاً – وذلك على الرغم من كل المال الخليجي الذي أنفق على إخمادها، وعلى وصم المتظاهرين بأنهم إرهابيون، وبالرغم من الاعتقالات الجماعية والموت داخل السجون، والتعذيب والمعاناة.
لماذا؟ لأن العوامل التي دفعت شريحة الشباب في المجتمع نحو الانتفاض والثورة زادت حدتها – البطالة، الفساد، القمع.
وأما الدرس الثاني فهو عدم انصياع المحتجين لمن يحاول إقناعهم بأنهم غير جاهزين بعد للديمقراطية ولمن يحذرهم بأنهم إذا لم يقبلوا بالفتات الذي يلقى به إليهم فسوف يؤول حال البلاد إلى ما آلت إليه الأوضاع في سوريا أو في اليمن أو في ليبيا.
بل هم مستمرون في الهتاف مطالبين بالحرية السياسية بنفس الطريقة التي سبقهم إليها إخوانهم وأخواتهم في ميدان التحرير. إنهم شباب، لا يخافون ولا تنطلي عليهم رسائل الدعم الزائفة.
وأما الدرس الثالث فهو أن الانتفاضة الشعبية معدية ومتجاوزة للحدود تماما كما كانت عليه قبل ثمانية أعوام. إذا كانت تونس قد أشعلت شرارة ثورة أكبر بكثير في مصر، فما بالك بالأحداث التي تجري في السودان والجزائر وما يمكن أن يتمخض عنها؟
من شب على شيء شاب عليه
لا يبدو أن طغاة الثورة المضادة الذين نصبوا في عام 2013 أو فيما بعد قد تعلموا شيئاً من هذه الدروس.
يوم الثلاثاء سوف تصوت اللجنة التشريعية في البرلمان المصري، الذي يهيمن عليه أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي، على مقترح بتمديد الفترة الحالية للدكتاتور عامين إضافيين وعلى السماح له بأن يترشح لفترة أخرى مدتها ست سنين.
وقد يتم صياغة دستور جديد يسمح للسيسي بأن يستمر في الحكم إلى ما بعد عام 2030.
يشعر معظم المصريين بالامتعاض الشديد من احتمال أن يستمر السيسي في السلطة لعقدين قادمين، ولو أن الناس كانوا يأمنون على أنفسهم من الاعتقال أو الإخفاء القسري أو القتل لعبروا عما في نفوسهم وأعلنوا بقوة عن معارضتهم الشديدة لذلك.
تمكن موقع على الإنترنيت اسمه "باطل" من جذب ما يزيد عن ربع مليون صوت رغم كل ما بذلته السلطات المصرية والسودانية من جهود لحجبه.
اكتشفت إحدى مؤسسات المجتمع المدني واسمها نيتبلوكس، وهي متخصصة في رصد مستوى الحرية في مواقع الانترنيت، أن مصر حجبت ما يقرب من أربعة وثلاثين ألف مجال إنترنيت لإخماد حملة تنظمها المعارضة ضد التعديلات الدستورية.
إلا أن الأضرار غير المقصودة التي تنجم عن مثل هذه المحاولة لحجب الصوت السياسي المعارض جسيمة جداً. فقد جاء في تقرير نيتبلوك ما يلي: "إن مواقع الإنترنيت والمجالات الثانوية فيها، والتي بات متعذراً الوصول إليها عبر شبكات مصر للاتصالات، ورايا، وفودافون، وأورانج، تشتمل على شركات بارزة في مجال التكنولوجيا، ومواقع الإنترنيت المخصصة للمساعدة الذاتية، وصفحات المشاهير، والعشرات من مشاريع التكنولوجيا مفتوحة المصادر، وكذلك مواقع الإنترنيت التابعة للجماعات الدينية سواء كانت بهائية أو يهودية أو مسلمة، ومواقع الإنترنيت الخاصة بالمنظمات غير الحكومية."
بات نظام السيسي يتصرف كأرنب صغير مذعور.
تضم المجموعة التي أنشأت هذا الموقع وزيرين سابقين في حكومة محمد مرسي وممثلين مصريين كانا ضمن من صفقوا لمن أطاح به وخلعه من منصب الرئاسة في عام 2013.
لا يوجد فصيل سياسي مصري، من الإسلاميين إلى العلمانيين، إلا وهو ممثل في هذه المجموعة، فقد أدركوا جميعاً، بغض النظر عن خلفياتهم السياسية المتباينة، أن مصر لم يعد بإمكانها أن تستمر على هذا الحال.
السلطة المطلقة
في هذه الأثناء يستمر نظير السيسي في ليبيا، الجنرال خليفة حفتر، في شن عدوانه المسلح على طرابلس، والذي أدى حتى الآن إلى مقتل 121 وجرح 561؛ سعيا منه لإحكام قبضته على السلطة بشكل مطلق.
وقد أفصح عن ذلك بشكل كامل منظره في صورة التقطت لهذا الذي عين نفسه مشيراً أثناء لقاء جمعه بأمين عام الأمم المتحدة أنتونيو غوتيريس في الخامس من أبريل/ نيسان قبيل بدء الهجوم.
أُجلس الرجل الأهم من بينهما على كرسي جانبي في مستوى أخفض من ذلك الذي كان حفتر نفسه يجلس فيه. وقد تدلى خلف حفتر على الجدار نسر ذهبي كبير. هكذا يرى حفتر المتوهم نفسه حاكماً لليبيا، كما لو كان مالكاً لها، وصاحب الأمر والنهي فيها، وكأنما حيزت له دون سواه.
كان الضوء الأخضر الوحيد الذي يعنيه -قبل أن يقطع محادثاته مع فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي ويشن هجومه غير المبرر على طرابلس- هو ذلك الذي حصل عليه من السعوديين.
ذلك هو نفس النسل من الطواغيت العسكريين الذين ثار عليهم الليبيون حينما تخلصوا من معمر القذافي.
وكما قال جمال محمود، أحد سكان شارع المطار في طرابلس، في تصريح لموقع ميدل إيست آي: "لن تصبح ليبيا مصر القادمة ... لقد فقدنا الكثير حتى الآن، وقدم الكثيرون من شبابنا أرواحهم لكي يتخلصوا من الزعيم الطاغية، ولم يفقد هؤلاء حياتهم حتى يأتي دكتاتور آخر ليحل محل القذافي."
إلا أن المجتمع الدولي -إذا ما كان لهذا المصطلح من معنى- منقسم إزاء حفتر. لقد ساعدته القوات الخاصة الفرنسية في تطهير بنغازي من مختلف الجماعات الإسلامية.
بينما يتطلع عملاق النفط الفرنسي توتال إلى اللحظة التي يفرض حفتر فيها سيطرته على طرابلس، تساند إيطاليا طرابلس، على الأقل حتى الآن.
وإذا ما نجح حفتر فإنه سيقدم شيئا واحدا لا غير؛ إنه العودة إلى تلك الأيام التي انتفض فيها الليبيون في كل المدن الساحلية وبذلوا كل ما في وسعهم لإسقاط النظام.
لا يعني ذلك بالضرورة أن هناك ما يضمن النتائج المأمولة من أحداث السودان والجزائر. ينبغي النظر إلى ما يجري على أنه الموجة الثانية من الربيع العربي، والذي ما يزال طريقه مزروعاً بالعقبات.
ينبغي على الشارع السوداني أن يدرك أنه ما من حزب أو فصيل أو تيار، علماني أو إسلامي، ينبغي أن يقصى من العملية الانتقالية. ثمة ما يدعو إلى الشك فيما إذا كان هذا الدرس قد تعلمه ائتلاف الحرية والتغيير في السودان، والذي يطالب حالياً بحكومة مدنية انتقالية تحكم بلا انتخابات لأربعة أعوام قادمة.
أحد زعماء الأحزاب المعارضة وجمعية المهنيين السودانيين هو الشيوعي محمد مختار الخطيب الذي يبلغ من العمر سبعة وسبعين عاماً. والآخر هو علي السنهوري، أحد زعماء حزب البعث، والذي ما يزال على ولائه لصدام حسين. يحمل كل واحد منهما على عاتقه قدراً لا بأس به من التاريخ ومن المتاع الخاص به.
إن المستبدين لا عقيدة لهم سوى الحفاظ على ذواتهم، فصدام حسين وبشار الأسد كانا بعثيين بينما كان البشير إسلاميا عمل على شق صفوف الحركة التي كان ينتمي إليها.
يصف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نفسه بأنه حامل راية ما يسميه "الإسلام المعتدل". أما السيسي فقد أثبت أنه أكثر زعماء مصر توحشا، وقد تفوق في طغيانه على حسني مبارك، وكل ذلك باسم الحفاظ على الاستقرار.
كل هذه التسميات لا تعني شيئاً إذا كانت النتيجة حكما استبداديا متوحشا. ولن يضمن عدم اختطاف العملية السياسية من قبل أي من الجنرالات المتربصين بها سوى التصالح وإشراك كافة التيارات فيها.
كل العيون على مصر
إذا ما كتب للموجة الجديدة من الربيع العربي النجاح فلن يكون ذلك إلا في مصر. فمع كل التقدير لحجم وأهمية كل من السودان والجزائر، فإن مصر هي الاختبار الحقيقي للثورة في الشرق الأوسط.
إذا ما أخذنا بالاعتبار اقتصادها الذي يجر إلى الحضيض، وطبقتها الوسطى التي تكاد تضمحل، وحقيقة أن ثلاثين بالمائة من شعبها يعيشون دون خط الفقر، فإن مصر تتعرض للسحق تحت وطأة سوء إدارتها.
يكرس ثلث الميزانية اليوم لسداد الفوائد على هذا الدين. بإمكان الطواغيت أن يقتلوا ولكنهم عاجزون عن إدارة شؤون الحكم. تعيش الدول العربية الحديثة -أي تلك التي لم تمزقها الحروب الأهلية- في حالة أزمة مستدامة وما ذلك إلا لأن حكامها لا قبل لهم باحتواء القوى التي يؤدي سوء إدارتهم لشؤون الحكم إلى إطلاقها.
ومصر اليوم بكل المعايير أكثر عرضة للقلاقل والثورات الشعبية مما كانت عليه في عام 2011. كانت مصر هي المكان الذي سحقت فيه الموجة الأولى من الربيع العربي، وستكون مصر هي المكان الذي سيقضى فيه على الدكتاتورية التي جاءت بعد الربيع.
وحينما يحصل ذلك فسوف يكون قد حسم مصير كل من يحاول في العالم العربي إنكار الحقوق الأساسية للناس.