أ.د مهدي دبان
من قال إن الأماكن جدران وهياكل تأوي من بداخلها؟ من الذي أكد أنها مجرد مواد صماء تُطوع وتُبنى؟ إن الأماكن أكبر من ذلك بكثير، أعمق من كل رؤية سطحية لا ترى إلا المظهر... الأماكن أرواح صامتة تنظر إلينا بعيون الجدران، وتبتسم عبر تشققات السنين، وتتنفس من ضوء نافذة لم نفتحها منذ زمن. إنها تشتاق كما نشتاق، ففيها نُسجت ذكريات وأحلام، وشهدت أفراحا وانكسارات... نرتبط بها كما أنها ترتبط بنا، لا فكاك من ذلك الخيط الخفي الذي يشد الروح إلى مكان كان يوما قطعة منا.
نعود إلى تلك الأمكنة بعد غياب، فنسمع صدى ضحكات ظننا أنها تلاشت، ونرى ظلال أعمارنا القديمة تتحرك فوق الجدران. الأماكن تهمس لنا، تذكرنا بكل ما حاولنا نسيانه، وتعيد إلينا صورا من زمن كنا نظن أنه انتهى. ربما نفترق عنها يوما، نغلق الباب خلف خطواتنا الأخيرة، وتمضي الأيام كأنها تهدم كل صلة. لكن الحقيقة أن المكان لا يغادرنا، بل يسكن الذاكرة، ينهض فجأة في لحظة حنين، يوقظ شعورا يجمع بين فرح ووجع، وكأن الروح تعود إلى بيتها الأول. فكل الجدران… تعرف أسماءنا.
صدق الدكتور محمد المقرن حين قال :
ورجوت عيني أن تكف دموعها
يوم الوداع ، نشدتها : لا تدمعي !
أغمضتها كي لا تفيض فأمطرت
أيقنت أني لست أملك أدمعي ..!