عام على عودة هادي إلى الحياة من اللا شيء !

Monday 30 November -1 12:00 am
----------

بدا عبدربه منصور هادي منهار القوى تماماً قبل نحو عام من الآن. كان الرجل غير مُصدّق أنه صار مجرد رئيس تمت محاصرته في قصره لا حول له و لا قوة؛ تم فرض الاقامة الجبرية عليه من قبل الانقلابيين: مليشيات الحوثيين و صالح.
على الأرجح لم يدر بخلده أن مثل هذه النهاية التراجيدية يمكن أن تكون خاتمة له كأول رئيس من جنوب اليمن، يأتي بعد رئيس شمالي ديكتاتور مثل علي عبدالله صالح، ليحكم كل اليمن.

تداول ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي صورة لهادي كرئيس منهار كدليل على حالته المأساوية التي بات عليها و هو محاصر في قصره: بدا الرجل جالساً على مقعد صغير، وأمامه طاولة صغيرة متناثرة عليها بضعة ميكرفونات، لكن يديه كانتا منسدلتين على ركبتيه و كأني بهما مخدرتان لا تقويان على الحركة مطلقاً، و رأسه انتكس بشكل حزين على رقبته نحو ظهره، و عيناه مغمضتان و كأنهما راحتا تتأملان مشهد نهاية رئيس ليست على الخاطر و لا حتى على البال.
أرّختُ لهذه اللحظات في صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وقتذاك، و لم يكن يدور في بالي ما سيحدث تالياً لهذا الرجل الذي بدت نهايته الوشيكة تدنو بإيقاع متسارع و مخيف.

لم يذهب إليه أحد لنجدته. لم يذهب إليه أحد مطلقاً. بضعة زيارات لناشطين لأخذ صور تذكارية لرئيس يودع حياته و قد فقد كل شيء تقريباً. حتى وزير دفاعه الجديد محمود الصبيحي الذي أتى به ليفعل ما لم يفعله من سبقه، كان هو الآخر تحت الاقامة الجبرية في منزله.
لا أحد يعرف على وجه الدقة متى التقطت هذه الصورة للرئيس هادي و أين، لكنها بدت على نحو كبير تختزل مشهد رئيس تم الانقلاب عليه يعيش أيامه الأخيرة وحيداً.
لكن الانقلاب، في الواقع، مضى عليه أكثر من عام. تحديداً: كانت مليشيات الحوثيين متحالفة مع قوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح قامتا في الـ21 من سبتمبر من العام قبل الفائت 2014م بانقلاب عسكري ضد الرئيس هادي و فرضوا عليه إقامة جبرية في منزله بالعاصمة صنعاء، كما سيطرت مليشيات الحوثيين على الرئاسة اليمنية في الـ20 من يناير 2015م مُعلنة عن تولي لجنة ثورية تدير شئون البلاد برئاسة أحد الحوثيين.

بدت القوى السياسية في اليمن ترنو إلى ما بعد ذلك الذي حدث و يحدث مع الرئيس المسجون في قصره باعتباره صار مجرد رجل سياسي يودع حياته [التي لم يتبق منها شيء].
لكن توقع ما لا يمكن توقعه يمكن له أن حدث حتى و إن لم يجرؤ أحد على توقعه.
تمكن الرئيس هادي من الافلات من قبضة الانقلابيين و غادر صنعاء إلى عدن بطريقة سرية و غامضة، و كذلك وزير الدفاع محمود الصبيحي، لكن مليشيات الحوثيين و صالح واصلت سيطرتها على العاصمة صنعاء و أسقطت عدداً من المحافظات الأخرى، تالياً.
بدا سيناريو الانقلاب يتضح بشكل أكبر و أوسع؛ اتجهت مليشيات الحوثيين و صالح بعد ذلك نحو محافظات الجنوب اليمني، و اقتحمت محافظة لحج و أسرت وزير الدفاع محمود الصبيحي [الذي وقف مع سلطة هادي كرئيس شرعي لليمن و أنهى قبل أسره تمرد قائد الأمن المركزي في عدن]، و أسرت شقيق الرئيس هادي أيضاً و قادة عسكريين أخرين، ثم واصلت تقدمها صوب عدن و حاولت (اغتيال) الرئيس هادي في الـ19 من مارس 2015م من خلال غارة جوية شنتها على قصر الرئاسة في منطقة معاشيق بعدن.

لم تبد أية قوة عسكرية في جنوب اليمن أي رد فعل تجاه ما تعرض له الرئيس هادي. لم يقف أحد مع الرجل حتى و هو بات في قصره الرئاسي في معاشيق بعدن. كان هذا هو العنوان العريض البارز في اطار المشهد العام بغض النظر عن بعض التفاصيل الصغيرة التي تخالف هذا العنوان.
كانت كثير من القوى السياسية في جنوب اليمن حددت موقفها من الرئيس مبكراً جداً. قاطعت انتخابه كرئيس للجمهورية اليمنية باعتبار ذلك شأناً لا يخصهم؛ فهو في نهاية المطاف بالنسبة لهم رئيس لاحتلال شمالي و عليه أن يعلن الانفصال.
كان هادي حتى و هو في هذه اللحظات العصيبة جداً، [ثابتاً على موقفه]. يعلن الرجل مرة و أخرى و مائة مرة بعد الألف: يمن اتحادي فيدرالي مستقر وآمن.

لم يرضخ الرجل لأي مطالب خلافاً لموقفه العلني المتكرر منذ عام 2011م، على الرغم من كونه من الجنوب اليمني و صار الآن في قلب عاصمة دولة الجنوب اليمني السابقة: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
كان مضى على محاولة اغتياله في قصر معاشيق بعدن ثلاثة أيام دون أن يحدث شيء يدل على اصطفاف جنوبي عام مع رئيس منهم تم الانقلاب عليه، حتى و إن قاطعوا انتخابه، و قال كثير منهم انه أمر لا يعنيهم. لكن في اليوم الرابع ، أي في الـ23 من مارس 2015م ، فاجأ الرئيس هادي جميع اليمنيين الجنوبيين و الشماليين على حد سواء، بأمر غيّر تالياً مسار الأحداث على نحو غير متوقع اطلاقاً.

طلب الرئيس هادي من دول مجلس التعاون الخليجي تدخّل قوات «درع الجزيرة» في اليمن لمواجهة تحركات الانقلابيين مليشيات الحوثيين و صالح التي تريد استكمال سيطرتها على كل شبر في اليمن. و في الـ25 مارس 2015م طلب الرئيس هادي من مجلس الأمن "اتخاذ تدابير تحت بند الفصل السابع لردع الميليشيات الحوثية"، داعياً "جميع الدول التي ترغب الى تقديم مساندة فورية الى السلطة الشرعية بكافة الوسائل والتدابير اللازمة لحماية اليمن و ردع عدوان الميليشيات الحوثية المتوقع في أي ساعة على مدينة عدن".

لكن مليشيات الحوثيين و صالح واصلت تقدمها نحو عدن على نحو سريع خصوصاً وقد بدا أن طلب هادي إلى الخليجيين بالتدخل غير مستجاب، لكن هذا أمر بدأ غير صحيح تماماً، ففي الـ26 من مارس 2015م بدأ التحالف العربي بقيادة السعودية عملية "عاصفة الحزم" ضد الانقلابيين مليشيات الحوثيين و صالح استجابة لطلب الرئيس هادي، الذي توارى عن الأنظار و لم يعرف أحد مصيره. و أصدر البيت الأبيض بياناً بالتزامن مع بدء الضربات الجوية في اليمن، أعلن فيه موافقة الرئيس باراك أوباما، على تقديم دعم لوجستي واستخباراتي لعملية "عاصفة الحزم" العسكرية في اليمن، مؤكداً في الوقت نفسه إدانة الولايات المتحدة الأمريكية بشدة للعمليات التي يقوم بها الحوثيون ضد الحكومة المنتخبة اليمنية، والتي تسببت في "عدم الاستقرار والفوضى".

واجهت مليشيات الحوثيين وصالح مقاومة شرسة، ليس من المجاميع المسلحة التي قابلت الرئيس هادي في معاشيق لأسباب مختلفة، قبل لجوئه إلى الرياض عبر عُمان، بل من مواطنين شباب من عدن، و من خارج عدن، و من هم أكبر سناً. كان السبب الجامع بينهم صد غزو دخيل عليهم لمنطقتهم، و ليس لسبب أخر. كانت المقاومة تتم بما تيسر من الأسلحة الخفيفة وحسب، و من ثم بالأسلحة التي تم السيطرة عليها من مخزن الأسلحة في جبل حديد بالمعلا دكة، لكن مليشيات الحوثيين و صالح تمكنت من اقتحام قصر المعاشيق بكريتر و القصر الرئاسي في التواهي.

كانت قوات التحالف لم تبدأ فعلياً تدخلها العسكري الا من خلال الضربات الجوية، و كانت وقتها تساعد أيضاً بانزال بعض الأسلحة الخفيفة جواً إلى المجاميع الشبابية العدنية التي كانت تقاوم باستبسال بطولي أسطوري غير متوقع، و اتضح أن هذا التأخير ارتبط بعمل دبلوماسي يجري انجازه و هو ما حدث تالياً. ففي الـ14 من أبريل 2015م تبنى مجلس الأمن الدولي قراراً رقم 2216 ضد انقلاب مليشيات الحوثيين و صالح. و أكد مجلس الأمن الدولي [دعمه للرئيس هادي و لجهود مجلس التعاون الخليجي في اليمن و لوحدته]، لكن مليشيات الحوثيين و صالح ضربت بقرار مجلس الأمن الدولي عرض الحائط و حاولت بسط سيطرتها على كل الأراضي اليمنية بقوة السلاح.

بقي هادي ثابتاً على موقفه و لم يتزحزح عنه قيد أنملة: استعادة سلطته من قبل الانقلابيين و السير نحو بناء يمن اتحادي فيدرالي مستقر وآمن، على الرغم من أن المقاومة التي كانت مستمرة في عدن كانت تجري لأسباب أخرى تماماً. كان الكثير من الذين يقاومون في عدن يرفعون شعار الدفاع عن الجنوب و ليس عن سلطة الرئيس الذين لم ينتخبوه من قبل، و هم منقسمون في تعريف ماهية هذا الجنوب على نحو ينسف بعضه بعضاً: راح قسم منهم يرفعون شعار الدفاع عن الدولة الجنوبية السابقة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، و قسم أخر يرفعون شعار الدفاع عن الجنوب العربي، على الرغم من كونهم كانوا وما زالوا يرفعون علم دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، في حين راح أخرون يجدون سبباً أخر لمقاومتهم: الدفاع عن الأرض والدين ضد الروافض المجوس. لم يرفع أحد شعار: القتال ضد الانقلاب على سلطة الرئيس المنتخب عبدربه منصور هادي.

كان التناقض واضحاً بشكل صارخ، لدرجة انقسامهم في تسمية مقاومتهم نفسها: بعضهم كان يسميها بالمقاومة الجنوبية و بعضهم الآخر يسميها بالمقاومة الشعبية فقط، لكن تلك المقاومة ظلت تراوح مكانها بفعل قوة و عتاد الانقلابيين الكبيرين على الرغم من الضربات الجوية المكثفة من قبل طيران التحالف بقيادة السعودية، و بعد نحو ثلاثة أشهر تغيرت الموازين تماماً عندما قررت قوات التحالف التدخل بقوات برية مسنودة بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة بما فيها المدرعات و الطائرات.

شعر الجميع بالتغير الكبير الحادث على أرض المعركة و بدأت قوات التحالف تضغط باتجاه استعادة سلطة الرئيس هادي و ليس لأسباب أخرى، و بدأ الكثير يعيد حساباته على حساب مواقفه المتشددة السابقة. في الواقع بدأ الكثير يلمس تغيراً حقيقياً يحدث على الأرض لم يكن متوقعاً حدوثه، و لم يعد ذلك الرئيس الذي فقد كل شيء كما هو مجرد رجل منهار على وشك توديع حياته.

ولأن العبرة بالنتائج في نهاية المطاف، فإن ذلك الرجل الذي بدا منهار القوى تماماً، و وحيداً قبل نحو عام من الآن، [عاد من جديد إلى واجهة المشهد من اللا شيء] كمتصدر له، مسنوداً ليس فقط من التحالف العربي، والمجتمع الدولي بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216؛ بل و من قوى رئيسة في جنوب اليمن كانت تتجاهله و تتجاهل سلطته تماماً، و ها هي الآن تعمل تحت سلطته الشرعية كأمر واقع، في حين الرئيس هادي ظل هو نفسه لم يتغير.
استمر ذلك الرئيس الذي بقي ثابتاً على موقفه. يعلن في ضعفه، و في قوته، مرة و أخرى و مائة مرة بعد الألف: يمن اتحادي فيدرالي مستقر وآمن؛ و ما زال.