ثانياً
----
شاركنا في مؤتمر الحوار ، وعملنا على إنجاحه بمعية فريق الحزب الاشتراكي وآخرين ممن بذلوا جهداً عظيماً من أجل ذلك . دافعت عن المؤتمر ، وانتقدت التشويه الذي تعرض له، كما عارضت ما مورس في محطات منه ، بما في ذلك ما حدث في محطته الاخيرة ، من تكتيكات حملت روائح الماضي . وتعرضت بسبب ذلك لحملات إعلامية وتحريض ، وخاصة بعد أن تبنى الحزب الاشتراكي دولة إتحادية من إقليمين ، كعنوان لاصلاح مسار تاريخي . وأخذت هذه الحملات تشتد بعد ذلك في حلقات مترابطة من التلفيقات وضجيج المراهقات السياسية والايديولوجية التي كانت تضخ كذباً من قاعة المؤتمر ، ومع ذلك تمسكنا بنتائج الحوار ، وأخذت أدعو إلى مقاومة كل محاولات إضعاف قيمته ، أو إفراغ نتائجه من مضامينها الثورية والمدنية . وواصلت الدعوة إلى تصحيح ما خربته اللحظات الأخيرة من المؤتمر ، لأن الحوار بالنسبة لي هو مشروع العمر منذ أيام الشباب في بواكير الحياة السياسية في ثانوية خور مكسر بعدن في ستينات القرن الماضي ، حيث كنت لا أرى السياسة غير حوار لا يهدأ ، وحتى في محطات الصراعات التي ينتصر فيها طرف وتهزم أطراف أخرى .. وأثناء مناقشة الالية التنفيذية للمبادرة الخليجة في لجنة برئاسة نائب الرئيس يومها عبدربه منصور هادي ، وعضوية محمد سالم باسندوة ، عبد الكريم الارياني ، ابو بكر القربي ، محمد اليدومي ، ياسين سعيد نعمان، بحضور المبعوث الأممي جمال بن عمر ، لم يكن "الحوار" مطروحاً على جدول الأعمال ، وتقدمت بمشروع "الحوار الوطني الشامل" ، تشارك فيه كل القوى السياسية وقوى المجتمع المدني حتى لا تبدو ثورة فبراير وكأنها قد أفرغت في إتفاق ثنائي بين المؤتمر الشعبي والمشترك لاقتسام السلطة . كانت هناك ضرورة موضوعية ل "عقد إجتماعي" لدولة مدنية ، وهو ما أنجزه الحوار بقدر كبير من المسئولية . لم يكن الحوار مشروعاً أممياً ، كما يدعي البعض، الحوار كان مشروعاً يمنياً تم استخلاصه من الحاجة الموضوعية لمغادرة مشاريع الغلبة التي عطلت بناء الدولة .
كان الحوار بالنسبة لي مشروع حياة وأنا أشاغب الرئيس سالمين رحمه الله ، وكان مسئولاً عن منظمة التنظيم السياسي الجبهة القومية / فرع عدن ، وكنت عضواً فيها ومسئولاً عن الشئون الاقتصادية خلال الاعوام ١٩٧١/ ١٩٧٥ ، بضرورة الحوار مع معارضي الجبهة القومية .
في حي من أحياء السيدة زينب في القاهرة عام ١٩٦٩ كنت أحضر على نحو منتظم مع عدد من طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أمسيات شعرية لأمل دنقل ، وكثيراً ما كانت أمسياته تتحول إلى نقاش سياسي وثقافي رفيع المستوى ، ظل ذلك النقاش يخصب في نفسي أهمية الحوار كقيمة إنسانية ، قبل أي شيء آخر .
كان سالمين قائداً يدير التناقضات من حواليه ولا يفرض قناعاته ، ربما لجأ إلى ذلك في وقت لاحق عندما اشتدت ضغوط المشكلات . سألته في أحد الإجتماعات ، لماذا لا يحاور تنظيم الجبهة القومية كل من اختلفوا مع النظام آنذاك ؟!
هب فوقي بعض أعضاء لجنة المحافظة، لكن سالمين قال بلهجته المعروفة : كلام بن نعمان صح ، بس يقول لنا مع من نتحاور بالضبط !! وهي نفس العبارة التي سمعتها بعد خمس وثلاثين سنة من زملاء في المشترك، عندما ناقشت معهم فكرة الحوار الشامل مع مختلف القوى السياسية خارج المشترك .
كان لي صديق من شبوة كثيراً ما حدثتي ، ونحن طلبة في جامعة القاهرة ، عن أحداث كثيرة كانت تجري يومذاك في شبوة ، والتي كان يطلق عليها المحافظة الرابعة . أدت تلك الأحداث إلى نتائج إجتماعية وسياسبة سلبية شوهت مضامين الثورة على أكثر من صعيد ، حيث ترك الكثير من أبناء المحافظة ديارهم وغادروا .
طلبت من سالمين أن يسمح لي بالذهاب إلى شبوة في نفس اللحظة التي أكمل فيها عبارته "مع من نتحاور .." إستغرب طلبي، ولكنه لم يسألني لماذا؟ .. فقدكان يعرف ما الذي تعنيه شبوه في ذلك الحين .
بعد أن وافق ، إتصلت بذلك الصديق الذي جاء من منطقة درب الفلاحين - درب آل بو طهيف. والتقينا في المحفد ، ومنها تحركنا إلى عتق ، وزرنا يشبم والصعيد وخورة ومرخة السفلى والعلياء وحطيب والهجر ونصاب وعرمة ، ومرينا على كور العوالق في رحلات يومية مضنية، وزرنا بيحان وعسيلان ووصلنا إلى قريب البلق ، وعدنا إلى النقعة و عزان وميفعة وبير علي وعين .
سجلت في زيارتي تلك وقائع كثيرة ، منها تلك الربوع المهجورة ، والتي خيم عليها السكون ، وبدت مبانيها كوشم أخذ الزمن يمحو ملامح خطوطه من على ظهر كف ٍ تغضن جلده بقسوة الحياة ..
وللحديث بقية ..