من يسيطر الآن على عدن وحضرموت وإلى أين يتجه؟

Monday 30 November -1 12:00 am
----------

يبدو واقع الجنوب اليمني، و عدن، بصفتها عاصمة لدولة كانت تُعرف سابقاً بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (ج ي د ش) 1967- 1990م، صعباً بل و شديد التعقيد في ظل ما يجري على أرض الواقع الذي يشير إلى وجود كيانات كثيرة - تحت اسم المقاومة الجنوبية - تسيطر عليه منذ دحرها لمليشيات الحوثيين و صالح، قبل بضعة أشهر، و هي كيانات مختلفة، و تخوض صراعاً (في عدد من جوانبه يقوم على أساس مناطقي عميق) من أجل السيطرة على موقع القرار استعداداً منها لقيادة دولة مفترضة في المستقبل لا يستند إلى إرث ماضوي موحد؛ إذ ينادي عدد منهم إلى العودة إلى وضع ما قبل ولادة (ج ي د ش) نفسها. 
لكن ليس هذا وحده العائق أمام استعادة قيام دولة مجتمع مدني حقيقية، بل و يكمن أيضاً في انتشار جماعات دينية متطرفة، و مسلحة في الوقت نفسه، و تمددها بات واضحاً على نحو لافت و واقعي، سواء في عدن، أو في بقية محافظات (ج ي د ش)، خصوصاً في حضرموت و أبين، وهو العائق الأهم و الأخطر في ظل مشروعاتها التي تقف بالضرورة ضد قيام دولة مجتمع مدني. 

انتشار الجماعات الدينية المتطرفة في بنية هذا المجتمع، الذي كان عنواناً للمدنية و التسامح الديني، بدأ منذ سنوات عديدة قبل الوحدة اليمنية التي قامت في 1990م، و ذلك في حضرموت، وكان قيامها ضد الجماعات الدينية (الصوفية) بداعي الإصلاح الديني، و يُسمّون: المصلحون. 
قبل ذلك بسنوات عديدة، أي قبل الاستقلال عام 1967م، كان مجتمع عدن المدني مثالاًَ للتعايش السلمي على مستوى شبه الجزيرة العربية، والعرب بشكل عام، على الرغم من أنه كان تحت سيطرة الاستعمار البريطاني، و كان من مميزاته البارزة أن تجد فيه المساجد إلى جانب الكنائس والمعابد، و كان الناس فيه دينياً يعيشون في وئام و سلام. لا وجود للتطرف الديني إطلاقاً. كان هذا في الماضي. 

لكن في حضرموت كان الوضع مختلفاً عن عدن. من بين أهم الملامح المميزة لتاريخ حضرموت هي الفوضى القبلية وما نتج عنها من غياب الاستقرار السياسي، فلقد شهدت حضرموت سلسلة طويلة من الحروب المدمرة بين الجماعات و الاتحادات القبلية التي كان أغلبها إما رفضاً لتدخل سلطة مركزية، أو رغبة في حماية مصالحها إزاء تجمعات قبلية أخرى، ولقد تمكن رجال القبائل المسلحون والمنتمون إلى وحدات سلالية متعددة من السيطرة على إقليم حضرموت منذ أواخر العصور الوسطى وحتى الثلاثينات من هذا القرن عندما نجح البريطانيون في بسط نفوذهم على البلاد، لكن غياب الحكومة المركزية أدى إلى تمتع رجال القبائل المسلحة عملياً بسلطة غير محدودة، و اعتباطية في الغالب، و نتج عن هذا غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي بدوره أعاق تطور العلاقات التجارية بين أجزاء مختلفة من البلاد. وفي ظل هذه الظروف أضطر المجتمع الحضرمي لخلق المؤسسات القادرة على التعويض، جزئياً على الأقل، عن غياب دولة فعالة ومستقرة، حيث مالت هذه المؤسسات في حضرموت إلى التطور وفقاً للنمط العربي المعروف والمتمثل في منطقة مقدسة على غرار الحرم المكي. وكانت هذه الأماكن الدينية قد عرفت في جميع أنحاء الجزيرة العربية منذ ما قبل الإسلام وحتى الآن تحت مسميات مختلفة: حرم، حِمَى، حوطة، هجرة، الخ، وفي حضرموت يُطلق على هذه المؤسسة اسم حوطة (1). ويُعتبر كل ما يقع داخل حدودها تحت الحماية الإلهية ولا يُسمح فيها بالقتال أو الأخذ بالثأر، كما أن تجاهل مكانتها الدينية يكون مجلبة لسوء الحظ (2). وتُستمد المكانة الدينية للحوطة في حضرموت من السلطة الروحية الرفيعة التي يتمتع بها مؤسسها التاريخي أو المزعوم الذي يُعتقد بأنه رجل "صالح" أو "ولي". 

تالياً ؛ أصبحت ممارسة تبجيل الأولياء في حضرموت ممتزجة بشكل كبير مع التراتب الاجتماعي المعقد والتضامن العشائري، ومن ثم واجهت هذه الممارسة نقداً شديداً من قبل المصلحين الدينيين المحليين، الذين يميلون عادة إلى صياغة مطالبهم لتحقيق المساواة والعدل الاجتماعي في عبارات دينية مألوفة وعلى وجه الخصوص تلك المستعارة من هجمات ابن تيمية العنيفة ضد الممارسات الدينية الشعبية (3)، وبتحديد أكثر، وقع المصلحون المحليون تحت تأثير تيارين: أولهما حركات التحديث في مصر التي تجمع أنصارها وراء مجلة المنار (4) في الربع الأول من القرن العشرين، و ثانيهما الفكر السلفي الوهابي في السعودية الذي يؤكد على ضرورة تنقية الدين الإسلامي من بقايا الحياة الوثنية كلها. لكن في أخر الأمر، فشل المصلحون المتشددون في حضرموت، الذين اتبعوا التيارين، في استئصال صيغ العبادة الشعبية، فلقد تم تبريرها وفرضها بشكل تام من قبل أجيال متعاقبة من العلماء المحليين الذين كتبوا بحوثاً لاهوتية متعددة لتكريس تلك الممارسات، و سبب أخر يتمثل في تحول ظاهرة تبجيل الأولياء المحليين إلى تقليد متوارث عبر الزمن، من الآباء إلى الأبناء، لتصبح جزءًا مكملاً لنظام القيم والرموز التي تتبناها الغالبية العظمى من مسلمي حضرموت. 

في مرحلة لاحقة من تاريخ حضرموت، وجد المهاجمون المحليون للمعتقدات التقليدية تأييداً في أوساط الماركسيين المنتمين إلى الحزب الاشتراكي اليمني، الذين بذلوا جهودهم للحد من ظاهرة تبجيل الأولياء و طقوسها، إن لم يكن لإزالتها أصلاً. وقد أدت جهودهم إلى هدم وخراب عدد من مراكز زيارات الأولياء الهامة، كتلك التي كانت في القطن والشحر، فجرّدت هذه وغيرها من المراكز من جوهرها الديني عمداً ودُنّست حرمتها، وحوّلت إلى أسواق سنوية ومهرجانات شعبية. وفي هذا الصدد، يبدو أن منظّري الحزب الاشتراكي قد عملوا يداً بيد مع أكثر المصلحين الدينيين راديكالية؛ فقد أدت جهودهم المشتركة في مدينة القطن إلى انخفاض الزيارة الشعبية لمقام أولياء عائلة المحضار، و هم من السادة (5). 
لكن موقف قيادة الحزب الاشتراكي اليمني خضع لتعديلات جادة قبل توحيد اليمن، إذ توقفوا عن العمل لمنع الناس من زيارة أضرحة الأولياء الرئيسية، لكنه لم يكن كافياً لتدارك انتشار الجماعات الدينية التي تقف في الجهة المضادة. 

كانت هذه الجماعات المتوثبة واقعة تحت تأثير الايديولوجية السلفية الوهابية المستوردة من السعودية حيث يعمل المهاجرون الحضارمة، و تحت تأثير هذه الايديولوجية المتطرفة، رفض الكثير من الشباب الحضرمي مفهوم الدولة العلمانية التي يدافع عنها، على الأقل قبل الوحدة، مسؤولو الحزب الاشتراكي، وفي الوقت ذاته، يعارضون بشدة الممارسات الدينية الإسلامية التقليدية التي تشمل طوائف الأولياء، الجلسات الصوفية، ومفهوم البركة والتي تتجسد ببعض الأشخاص والأماكن. 
كانت هذه النشاطات الدينية المعارضة تتم بهدوء، و في كثير من الأحيان، تُمارس العمل السري بشكل منظم و عميق، و تميل إلى السياسة في نهاية المطاف. 

هذه الجماعات راحت تنتشر بوضوح بعد الوحدة في مناطق حضرموت وأبين، وبدرجة أقل في لحج وعدن وشبوة وغيرها من مناطق جنوب اليمن. 
فضلا عن ذلك، كشفت وثائق وجود جهات أخرى كانت تعمل في السياق ذاته التي انتهجته الجماعات الدينية المذكورة سلفاً، إذ أشارت وثائق عن اتفاق مسبق بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح و الشيخ عبدالله حسين الأحمر على (ابتلاع) جنوب اليمن بحجة انهم شيوعيون، من خلال ترك جماعة الاخوان المسلمين العمل السري في شمال اليمن، والظهور الى العلن، قبل تحقيق الوحدة اليمنية، من خلال تكوين حزب الإصلاح، والعمل على التغلغل في بنية المجتمع الجنوبي من بوابة الدين وهو ما حدث بعد الوحدة في 1990م. 
و لقد ساعد في ذلك، قيام الرئيس السابق علي عبدالله صالح بالقضاء على البناء المؤسسي في جنوب اليمن و ذلك بخصخصة جميع المؤسسات والشركات وبيعها الى حد تصفيتها من الوجود وتشريد منتسبيها بالضرورة، وقبل ذلك القضاء على (المنهج التعليمي) غير المتطرف الذي كان قائماً في جنوب اليمن، فضلاً عن القضاء على المؤسستين العسكرية والأمنية خلال حرب صيف 1994م وهي التي أدت تالياً إلى انطلاق الحراك الجنوبي عبر جمعيات المتقاعدين العسكريين عبر مطالب حقوقية ومن ثم تحولت إلى مطالب سياسية لاستعادة الدولة السابقة. 

في بحثه الذي نشره المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية عام 1997م، كتب ألكسندر كينش من جامعة اكستر ـ بريطانيا، عن ما يجري من قبل الجماعات الدينية السلفية، بشكل دقيق، و واضح، قائلاً: "على ما يبدو كان تأثير جهود المصلحين في حضرموت محدوداً قبل الوحدة، إلاّ أن الوضع في الوقت الراهن يتغير بسرعة، حيث [يتوجه جنوب اليمن نحو حكومة إسلامية]، فبعد عقدين من التلقين الفكري السري، الذي قامت به جماعات الاخوان المسلمين في حضرموت، أصبحت شعارات ومبادئ المصلحين متجذرة في المجتمع الحضرمي. وفي الوقت الحاضر، يتلقى المصلحون في جنوب اليمن دعماً سخياً من الأحزاب الدينية المتشددة في الشمال، والتي تتمتع الآن بحرية الترويج لمبادئها من خلال استخدامها لوسائل الإعلام وشبكة الواعظين. قد يقود كل هذا الى تغييرات هامة، في أنماط السلوك والممارسة الدينية في حضرموت، وقد يتوقع المرء، على سبيل المثال، حملة واسعة النطاق للقضاء على تبجيل الأماكن المقدسة محلياً، وقمع الأنشطة داخل مزارات القادة الدينيين التقليديين". (6) 

الحرب الأخيرة التي اجتاحت عدن ومناطق الجنوب اليمني من قبل مليشيات الحوثيين وصالح، كشفت عن وجود جماعات دينية متطرفة، ومسلحة، ومتباينة الرؤى، كالسلفيين، وتنظيم القاعدة الذي نقل مقر قيادته من السعودية إلى اليمن عام 2009م (7). وقد سيطر التنظيم منذ أوائل العام الجاري 2015م على مدينة المكلا و ضواحيها وسبق أن سيطر على عدد من مديريات أبين قبل ذلك ببضعة أعوام، هذا بالإضافة إلى الجماعات التي تتبع حزب الإصلاح (الاخوان المسلمين) التي صارت في تضاد واضح مع السلفيين، فضلاً عن الجماعات الدينية المرتبطة بالعمل الاستخباراتي، وكلها نتاج لعمل بدأ منذ سنوات طويلة كما هو موضح بعاليه، لكن يجمعها هدف واحد، على الرغم من أن كثيرين يعتقدون أن الحرب بين شمال اليمن و جنوبه. 
"ظاهريا سيبدو الأمر كذلك من حيث كونه صراعاً سياسياً على السلطة؛ غير أن الصراع [في جوهره هو صراع ديني للاستحواذ على السلطة]، حتى و إن توارى و لم يظهر بعد إلى السطح سواء بقي اليمن فيدرالياً من إقليمين أو عاد إلى دولتي ما قبل 1990م. في الواقع إنه صراع بين قوى دينية مختلفة، كثيرة، متحفزة، بل و متحمسة، لحكم اليمن، يجمعها هدف واحد يتمثل في قيام دولة وفق معتقدها الإسلامي الخاص بها، و بالتالي يستطيعون من خلال هذه الدولة حكم الناس عبر الدين". (8)

إنّ مواجهة مثل هذا الواقع الخطير، شديد التعقيد، والتغلب عليه من خلال بناء دولة مجتمع مدني حقيقية، يتطلب رؤية شاملة، واضحة الأهداف، و دقيقة، و أموال كثيرة، و كادر بشري مدرك لأهمية هذه الرؤية، وقبل هذا، مدرك لطبيعة المحافظات وعاداتها، و اختلاف تركيبها السكاني، وتنوعها التضاريسي، وتنفيذها سيحتاج إلى سنوات طويلة، و صبر بالضرورة، لأن تغلغل هذه الجماعات الدينية المتطرفة خلال هذه السنوات الفائتة أصبح متجذراً في بنية المجتمع بشكل كبير، وواضح. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(1) حرفياً: مكان طافه شخص صالح، كي يميز عن الأرض المحيطة به. 
(2) للاطلاع على وصف أحد الباحثين المحليين لتأسيس وتطور حوطة في حضرموت أنظر: عبدالعزيز بن عقيل "حوطة في طور التأسيس: قراءة تحليلية في مخطوطة المقصد في مشاهد المشهد" مجلة الآفاق، حضرموت، مارس 1987: 22-40. 
(3) رفض أغلبية معاصري الفقه الحنبلي ابن تيمية (توفي 728/ 1328) موقفه باعتباره شديد التعصب. ومع ذلك ، أصبح في مرحلة لاحقة نموذجاً يُحتذى به من قبل المصلحين المسلمين، والمعارضين لزيارة أضرحة الأولياء وطقوسها. أنظر: 
M.V. Memon. 1978. Ibn Taymiyyas Struggle against Popular, The Hague Paris 
(4) راجع دراسة آدمز عن هذه الحركات: 
Ch. Adams, Islam and Modernism in Egypt, London, 1976 
(5) زيارة أضرحة الأولياء في حضرموت ـ ألكسندر كينش، جامعة اكسترـ بريطانيا. 1997م. 
(6) زيارة أضرحة الأولياء في حضرموت ـ ألكسندر كينش، جامعة اكسترـ بريطانيا. 1997م. 
(7) القاعدة بوصفها خطراً في طريقه للتحول الى سرطان ـ سامي الكاف. 2010م. 
(8) جوهر الصراع حكم الناس بتفويض إلهي ـ سامي الكاف. 2015م

 

نشر في موقع الملعب :