هذه ليست تعز!

Monday 30 November -1 12:00 am
----------
اثر الانتكاسة التي تعرضت لها حركة 1948 وأفضت إلى قطع رؤوس بعض رموزها وفرار البعض الآخر إلى عدن وغيرها.. قرَّر ولي العهد سيف الاسلام أحمد -بعد أن أستلم صولجان الاِمامة خلفاً لأبيه الامام الصريع يحيى- أن يهجر العاصمة صنعاء التي فتحها نهباً مباحاً لغوغاء القبائل وهوام البشر، ويتَّخذ من تعز عاصمة للعهد الجديد. ويومها كانت تعز تمور بحالاتٍ شتى وتلاوين مختلفة عنوانها التطلُّع نحو التغيير الذي لم تكن قد أتَّضحت معالمه الرئيسة على نحوٍ مبين. وقد أضافت إليها إقامة الامام الجديد فيها بُعداً جديداً وسبباً إضافياً للمُغايرة في السلوك العام، لاسيما أنها بدأت تنفتح على ثقافات وتجارب وافدة جديدة عبر الداخلين اليها والمقيمين فيها من العرب والأجانب، في الوقت الذي بدأ يعود إليها الطلاب الدارسون في مدارس عدن ومدارس وجامعات مصر وغيرها، حاملين أفكاراً ومفاهيم جديدة أشعلت لاحقاً فتيل الثورة على النظام الموغل في التخلف، كما تسللت إليها الكتب والمطبوعات الاعلامية بمختلف ألوانها وتصنيفاتها والتي أسهمت في اذكاء الوعي الوطني والثوري لدى عديد من الشباب. واثر قيام الثورة السبتمبرية ، والشروع في تجهيز اللبنات الأولى للعهد الجمهوري ودولته الوليدة، وانخراط شباب اليمن الطبيعية في الدفاع عن المنجز الثوري من تكالب قوى الملكية والمرتزقة عليه، وجد رجال الثورة الأكتوبرية أرضية خصبة في تعز للتنظيم والتدريب والانطلاق صوب تنفيذ عمليات فدائية في الداخل الجنوبي أو مهام سياسية في الخارج ، بالاضافة الى جمع الأموال وتلقِّي مختلف أوجه الدعم اللازم للثورة ضد الاحتلال الأجنبي وركائزه المحلية، ناهيك عن توفير الأجواء المناسبة لتحرير واصدار المطبوعات الصحافية الناطقة باسم الثورة الواحدة. ويومها احتضنت تعز بكل الدفء جميع ثوار الجنوب المحتل، لم تُفرِّق قط بين منتمٍ إلى الجبهة القومية أو جبهة التحرير.. حتى يوم أراد الزعيم العروبي خالد الذكر جمال عبدالناصر أن يُوجِّه رسالته التاريخية إلى بريطانيا، داعياً أيّاها أن تحمل عصاها وترحل عن الجنوب، اختار مدينة تعز لتوجيه هذه الرسالة. ظلت تعز حُبلى وولاَّدة على مدار تاريخها.. فمن رحمها تواترت سُلالات باسقة الأسماء والصفات في شتى ميادين الحياة. ظهر منها خيرة أهل العلم والتنوير والحكمة والمعرفة، وأبرز رجال الفكر والسياسة والعسكرية والحركة الوطنية والقومية، وصفوة أهل المال والأعمال والتجارة والحِرَف، وأبرز مؤسسي التيارات الحزبية والمدنية، ورموز الأدب والفن والثقافة والصحافة. وفي المَهاجِر ومناطق الاغتراب كان أبناء تعز السبَّاقين لتشكيل الاتحادات والروابط والأندية التي تلمّ شمل العمال والطلاب والمثقفين اليمنيين في شتى بقاع الأرض، مثلما لمَّت تعز شمل كل أبناء اليمن الذين سكنوها فسكنوا اليها مثلما سكنت فيهم.. فلم تكن تعز يوماً مدينة طاردة، بل كانت -إلى جوار عدن- أكثر المدن اليمنية قدرة على الجذب والاستقطاب والاحتواء الدافيء. لقد جمعت تعز غزير المال وعزيز الرجال، وظلت مسالمة وحالمة، ومثالاً على المدنية والتحضُّر والعصرنة.. وهكذا هو تاريخها منذ البدء. حتى بعد نيل الجنوب اليمني استقلاله من الجاثم الأجنبي، ونشوب صراع جديد بين قوى الثورة أو بين قوى المجتمع -والذي كان قد بدأ أصلاً عشية الاستقلال- أسفر عن ازاحة أو ازالة بعضها للآخر، أضطر عديدون إلى الفرار صوب صدر هذه المدينة التي أحتضنت الشاردين، حيث وجدوا دفء الأمان، قبل أن ينطلق بعضهم منها إلى آفاق مستقبل رحب عبر الدراسة أو العمل.. وقد تكرَّر هذا المشهد مراراً منذ أواخر 1967 إلى أواخر 1989. واثر استئناف المحادثات الوحدوية بين قيادتي الشطرين، أستشعر الجميع -ذات فترة فاصلة في مسار هذه العملية- اصابة هذه المحادثات بحالة من التعثُّر أو نوبة من الارتباك، خلال انعقادها في العاصمتين -صنعاء وعدن- فتقرَّر نقل طقوسها إلى تعز، فاستحال التعثُّر إلى سلاسة والتوتُّر إلى سكينة وأنتهت حالات الشدّ والجذب والجزر والمد التي أكتنفتها قرابة ثلاثة أعوام، فقد تحسَّنت الأجواء النفسية لدى أطراف المحادثات، وكأنَّ لطبيعة هذه المدينة فعل السحر، حتى أفضى الأمر الى الاتفاق على ملامح المشهد السياسي لدولة الوحدة، وبالذات التأكيد القاطع حينها على ضرورة الاقتران الشَّرْطي بين الوحدة والتعددية وهي المسألة التي كانت أسيرة الضبابية من جهة والتعنُّت من جهة أخرى. هذي هي تعز التي نفتقدها اليوم ! ... ولا ندري الى متى؟ هذي هي تعز التي راحت ذئاب البشر تنهش في لحمها.. وللأسف الشديد أن معظم الناهشين من بَنِيها! هذي هي تعز التي خرجت -يوماً قريباً- من دار المدنية والثقافة والسلام، ولم تعد اليها حتى هذه اللحظة! هذي هي تعز التي طالما آوت الرجال الأبطال ، فآلت بها الأحوال إلى ايواء الأنذال! هذي هي تعز.. لا، هذي ليست تعز!
 
 نقلا عن (يمن مونيتور)