حاول عيدروس الزبيدي تقديم نفسه صباح يوم الخميس 4 مايو 2017م كزعيم مدني أمام بضعة آلاف احتشدوا في ساحة العروض بخورمكسر، و ليس كقائد عسكري.
ارتدى الرجل بدلة شتوية أنيقة غامقة اللون وقميص أبيض و ربطة عنق حمراء على الرغم من كون سكّان عدن دائماً ما يرتدون في صيف عدن اللاهب ملابس قطنية خفيفة. بدا منظره هذا لافتاً للانتباه على نحو غير معتاد؛ غير أن ما تم إعلانه في ذلك الحشد كان أكثر لفتاً للانتباه.
قال الزبيدي أمام الجماهير التي رفعت علم [جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية] كعادتها في مثل هكذا تجمعات، وكأنه على خشبة مسرح جاء ليقرأ نصه المتفق عليه في سياق دوره الذي تم اقراره سلفاً: "إن هذا اليوم العظيم 4 مايو 2017م سيشكل مرحلة مفصلية في مسار الحركة الوطنية الجنوبية، ونقلة نوعية في العمل السياسي الجنوبي الاحترافي داخلياً وخارجياً. وأتقدم إليكم بالشكر وجزيل العرفان على الثقة التي منحتموني إياها والمسئولية الجسيمة التي لن استطيع تنفيذها إلا بكم وفيكم بتكاتفكم وصمودكم كما عهدناكم، وإننا سنعمل مع كافة شرائح ومكونات الجنوب سياسية واقتصادية وعسكرية وصولاً إلى الاستقلال الكامل لدولة (الجنوب العربي)".
بعد ذلك بدقائق تم توزيع ما تم تسميته بـ(اعلان عدن التاريخي) بوصفه متوافقاً مع كلمة الزبيدي التي أشار فيها الى الثقة التي نالها من بضعة آلاف من الناس باعتبارها (تفويضاً باسم الشعب)، كل الشعب الذي كان يمثل ما يُعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، تفويضاً كاملاً للزبيدي ليقرر مصير هذا الشعب..!
لا يوجد سياسي محترف يقدّم نفسه على ذلك النحو. لا داخلياً و لا حتى خارجياً.
ليس الزبيدي - الذي تم اقالته من منصبه كمحافظ لعدن بقرار جمهوري متوقع من الرئيس عبدربه منصور هادي- وحده من يقدّم صورة نمطية للسياسي الذي لا يعي ما يقوله في سياق خطاب يتلوه أمام حشد من الناس، لجعله يُمثّل كل الناس..!، فقد جرت العادة أن يقدّم الكثير من الساسة ذات الصورة النمطية في سياق المشهد السياسي في دولة جنوب اليمن السابقة.
قال الزبيدي في كلمته المُشار إليها سلفاً: "أحييكم تحية الأبطال وأضع على رؤوسكم قبلات الوفاء والعرفان وأنتم تنقشون بأقدامكم على تراب أرض الجنوب من أقصاه إلى أقصاه ملامح مرحلة السيطرة على الأرض، هذه المرحلة التي سنخوضها معاً وننتصر فيها مثلما انتصرنا في معارك الشرف والبطولات، ولا استطيع أوفيكم بكلمات الوفاء والعرفان، ولكنني أدعو الله العلي القدير أن يمكنني من الوفاء لكم بروحي ودمي، وخوض مشوار النضال المشترك بروح المقاومة وعنفوان العطاء باستكمال مهام ثورة الجنوب التحررية".
في الواقع يُجدّد الزبيدي تقديم الصورة النمطية عن ساسة عهد الاشتراكيين الذين حكموا جنوب اليمن من 1967 إلى 1990م بديكتاتورية الحزب الشمولي عندما كانوا يخاطبون الجماهير بمفردات ديماغوجية بوصف جميع الناس من طينة واحدة؛ في حين أن الواقع خلاف هذا تماماً.
ولقد أثبتت سرعة انهيار دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية انها قامت على أساس خاطئ حين أقصت الجبهة القومية كطرف سياسي أول، الطرف الثاني جبهة التحرير كطرف سياسي آخر، فضلاً عن اقصاء باقي الأطراف السياسية الأخرى الأقل حجماً و تأثيراً و كان نتيجة ذلك مروّعة اذ شهد الجميع تصفيات دموية بين الرفاق كل بضع سنوات أفدحها مذبحة 13 يناير شتاء 1986م. و قد مارس مؤيدو عيدروس الزبيدي، منذ اقالته من منصبه، قمعاً للرأي الآخر في مواقع التواصل الاجتماعي، أكثر من ذي قبل، حد التهديد بالتصفية فضلاً عن السب و القذف بأبشع ما يمكن استخدامه من مفردات عنصرية مناطقية بغيضة.
لم تنجح من قبل سلطة الديكتاتورية في قمع الرأي الآخر أيام لا صوت يعلو فوق صوت الحزب الاشتراكي اليمني، فما بالكم في زمن مواقع التواصل الاجتماعي الحر؟
لا تقوم أي دولة مُعتمدة على طرف سياسي واحد وحسب. لا يمكن لهذا الأمر غير السوي أن يحدث مجدداً.
هذا أهم درس يمكن تعلمه من تجربة الاشتراكيين الشمولية، لكن ثمة من يريد اعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
يتحدث الزبيدي، و من دفعه إلى الواجهة، بالضرورة، عن استعادة دولة الجنوب العربي في ما سمّوه بإعلان عدن التاريخي -(توقف هنا من فضلك: هذه دولة اتحاد بين عدد من السلطنات والمشيخات قامت مطلع الستينات بصناعة بريطانية يحكمها مندوب منها كرجل أول يسمى المندوب السامي، و رئيس وزراء يمني مُنتخب كرجل ثان و انتهت في 1967م ولا يدخل فيها سلطنة الكثيري و سلطنة القعيطي في حضرموت ولا السلطنة المهرية)- على الرغم من كونهم ما زالوا يرفعون علم دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كرمز لهم و ليس علم الجنوب العربي.
لا يذكرون اسم اليمن في خطاباتهم مطلقاً. يعتقدون انهم غير يمنيين؛ ويؤمنون بذلك و وفقه يتصرفون، حتى و لو كانت تصرفاتهم منافية للعقل و المنطق، و من ثم يريدون اعادة عجلة التاريخ إلى الوراء بنفس الأدوات و ذات الأساليب.
جاء في ما سمّي بـ(اعلان عدن التاريخي)، رفض قرار رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي باقالة عيدروس الزبيدي من منصبه كمحافظ لعدن، بل و اعتبار قرار الاقالة غير شرعي، مع انه صادر من رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، ما يعني أن شرعية سريان قرار تعيين عيدروس الزبيدي محافظاً لعدن من قبل رئيس الجمهورية إنما هو فوق شرعية رئيس الجمهورية ذات نفسه و هو ما لم يحدث من قبل لا في تاريخ الجمهوريات و لا حتى حدث في فترة ما قبل تاريخ الميلاد.
منطق اعتساف الحقائق يتواصل حتى لو أتى ليتصادم مع التحالف العربي و مجلس الأمن الدولي؛ فقد جاء بالنص في ما سمّي بـ(اعلان عدن التاريخي): "وحيث إن عاصفة الحزم والأمل قد شكّلت منعطفاً جديداً في تاريخ المنطقة وخلقت واقع إيجابي في أرض الجنوب كنتاج للمساهمة الفاعلة للمقاومة الجنوبية بكل أطيافها بتحقيق النصر العظيم بمساندة ودعم دول التحالف العربي في تحرير مناطق الجنوب، والتصدي وطرد مليشيات الغزو الحوثي العفاشي، إلا أن تلك الانتصارات لم تشفع للمقاومة الجنوبية أن تكون شريكاً فاعلاً في العملية السياسية، بل تم إقصائها وتهميشها والتآمر عليها والتنكر لدورها، واستثمار تلك الانتصارات من قبل قوى الإرهاب السياسي المهيمنة على سلطة القرار والمعادية لتطلعات شعب الجنوب، بل وصل الأمر إصدار قرارات العقاب السياسي والتحقيق مع أبرز رموز المقاومة، مما يعني الانقضاض على الشراكة السياسية لشعب الجنوب مع الشرعية المختطفة من قبل جماعة الإخوان المسلمين".
أنظروا إلى الجرأة في اعتساف حقائق الواقع بكل مفرداته و تجلياته و قد أتت على نحو صادم. لقد أتى التحالف العربي لدعم الجنوب؛ حاف بدون ذكر اسم اليمن وفق اعلان عدن التاريخي، مع ان الحقيقة وفق الواقع تقول ان التحالف العربي جاء لدعم شرعية رئيس الجمهورية اليمنية عبدربه منصور هادي و دعماً لوحدة أراضي الجمهورية اليمنية. و لاحقاً عزز مجلس الأمن الدولي هذا التوجه بشكل رسمي و على نحو واضح و دقيق بقراره رقم 2216.
و فوق هذا: يتحدثون عن الاقصاء، و يبحثون عن الشراكة في صناعة القرار السياسي و في الوقت ذاته يسمحون لأنفسهم، بتفويض لا قيمة له قانونياً، ليمثلوا الشعب، كل الشعب. و كأنهم هم الشعب، و الشعب هم..!
حسناً .. دعكم من هذا الآن. بعد نحو ساعتين من توزيع ما سمّي بـ(اعلان عدن التاريخي)، يظهر عيدروس الزبيدي، نفس الرجل الذي ارتدى بدلة شتوية أنيقة غامقة اللون وقميص أبيض و ربطة عنق حمراء صباح ذات اليوم، ليطل على الجميع في بث مباشر على قناة "سكاي نيوز عربية" و يعلن وقوفه الى جانب شرعية الرئيس هادي و التحالف العربي لحين انتهاء هذا التحالف من مهمته. انه ذات الرئيس عبدربه منصور هادي غير الشرعي بقرار اقالته للزبيدي في ما سمّي بـ(اعلان عدن التاريخي) و ذات التحالف العربي الذي تم تصويره على أساس انه جاء لدعم الجنوب العربي..!
أهم ما حدث يوم الخميس 4 مايو 2017م ليس كل ما جاء بعاليه؛ بل يكمن في انه لم يحدث صدام مسلح في عدن يُعيد الى الأذهان تلك الصدامات المسلحة التي أغرقت المدينة في بحر من الدماء. في الواقع يتعين ان لا يحدث أي صدام مسلح مجدداً يُغرق الجميع في بحر من الدماء.
لكن ما يمكن الوقوف عنده في سياق المشهد السياسي ككل، يكمن في أن الوحدة اليمنية التي تمت في عام 1990م لم يعد لها وجود بتلك الطريقة التي أدت الى ابتلاع الطرف الشمالي لطرفها الجنوبي، و أي محاولة لفرض هذا التوجه لم يعد مقبولاً منطقياً؛ لا وفق الأحداث التي تحدث على أرض الواقع بعد حرب 2015م و لا حتى قبل ذلك وفق نتيجة حرب 1994م. و أي محاولة لابتلاع طرف لطرف أو لأطراف في سياق المشهد ذاته في ما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يتعين ان لا تحدث من جديد.
لقد شكّل توقيت قرار اقالة عيدروس الزبيدي من منصبه كمحافظ لعدن يوم 27 ابريل 2017م محاولة بائسة لفرض احياء ذكرى اعلان الحرب على جنوب اليمن في 27 ابريل 1994م وبالتالي على شعب بأكمله. و هذا أمر يدل على ان ثمة من يسيطر على ناصية القرار في مؤسسة الرئاسة و يريد فرض ما لا يمكن فرضه، لا منطقياً و لا حتى متوافقاً مع الأحداث على الأرض. و من غير المنطقي استغلال ذلك من أي طرف كان لاعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
لا يمكن التغاضي عن كون عيدروس الزبيدي، قدّم نفسه كرجل شجاع لا يهاب الموت في صورة نضالية عظيمة أبان تواجده في الضالع مع رفاقه الصناديد ضد الانقلابيين، و شجاعة مماثلة حين قبل أن يكون محافظاً لعدن عقب اغتيال محافظها الأسبق ابن عدن البار الشجاع جعفر محمد سعد، لكن إدارة محافظة أمر مختلف تماماً، فهو لم و لا يستند إلى أية خبرة قيادية إدارية متراكمة من قبل في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، و لذلك شهدناه يدير محافظة عدن كأنها شركة خاصة به و بمن حوله الذين أتى بهم من لون واحد، ليديرها، هو ومن معه، باعتبارها عاصمة لدولة مفترضة في مخيلته و في مخيلة ممن تماهوا معه، و ليس إدارة محافظة هي عاصمة مؤقتة للجمهورية اليمنية لحين الانتهاء من الحرب القائمة الآن ومن ثم الوصول الى حل سياسي ينقل الجميع إلى المستقبل وفق إرادة شعبية جامعة مُتفق حولها.
كما لا يمكن التغاضي عن كون الكثير من قرارات الشرعية سارت في ذات السياق الاقصائي للآخرين إذ خضعت للون الواحد المتماهي مع حلف هادي وحزب الإصلاح وبعض ممن تم استمالتهم من الحراك الجنوبي، و جاءت في كثير منها غير خاضعة لأية أسس أو معايير لشغل الوظيفة العامة في كافة المناصب العليا والمتوسطة و الأدنى، و لا حتى خاضعة للشراكة الحقيقية المفترض تطبيقها في عملية صناعة القرار السياسي الجامعة لكافة الأطراف السياسية بمختلف توجهاتها والتي تحول دون الوقوع في المزيد من الأزمات و الصراعات التي يبدو انها لا أفق لها أو نهاية.