مجرد تلاعب بسيط بالألفاظ والتضاد

Monday 30 November -1 12:00 am
----------

اذا كنت مؤرخا تستعد لتدوين التاريخ في هذه المرحلة المفصلية لهذا البلد، فان لديك مسارين بإمكانك وضع عناوين بارزة لهما على ان تقوم لاحقا باعتماد احدهما والمواصلة في سياقه .. وربما بإمكانك اختيار عنوان الآن مع إمكانية تبديله لاحقا او تبريره او انكاره او الاعتذار عنه ..

-يمكن أن يتفق الطرفان وسيكون حديثك حينها عن أزمة ذلك العام واخطاء سياسييه وانسداد الأفق وانعدام الرؤية، ومن ثم حكمتهما البالغة في إنهاء الصراع وتغليب مصلحة الوطن.

-يمكن لطرف ما أن ينتصر فيكتب التاريخ ضمنا لشروطه ورؤيته، وستكتب حينها كلماتك بقلمه، ستحّمل فاتورة المغلوب كل اعباء الحرب وضحاياه حتى لو لم يكن هو من اشعلها بالاساس، حتى وان كانت شناعة الطرف المنتصر أكبر فلن تُوصف سوى بالجدارة، وسيمنح وسام الإستحقاق ودرع الشجاعة لنصرة المظلوم وإحقاق الحق.

أرتكب الالمان شعبا وحكومة بشاعات في حق الدول التي سيطروا عليها اثناء الحرب العالمية الثانية، تم قهر الناس وقتلهم وتشريدهم وسجنهم وتعذبيهم واستخدامهم كعمال لمصانع الحديد والسلاح، كل ذلك في خدمة الامة النازية العظيمة.

لاحقا عندما انتهت الحرب وبدأت المحاكامات ضد مرتكبي تلك البشاعة، كان رد كل المتهمين على تهمهم ردا واحدا وكأنها إجابة نموذجية لسؤال ازلي، قالوا "لم نكن نعلم" . هي اذا خطيئة الجهل .

ولو كان هتلر قد انتصر لكانت تلك الصفة منزهة عنهم ولكانت فضيلتهم هي العلم.

هكذا بكل سهولة مجرد تلاعب بسيط بالالفاظ والتضاد.

في تجربتنا اليمنية لدينا نموذج حي يكتب صفحات التاريخ قبل وقوعها أو يعيد صياغتها لاحقا باثر رجعي حتى ولو مرت على وقوعها عشر سنوات، يكفي أن تبحث عن الحكمة التي تخفي عن الناس حينها، مثلا خرق الخضر لسفينة المساكين او قتل وحيد ابويه، او بناءه لذلك السور المدمر.

في الذاكرة السياسية القريبة سنضع تجربة التجمع اليمني للاصلاح، الحزب ذي القدرة على المرونة والإنكماش والتوسع وكتابة تاريخه طبقا لمبدأ "جهل الشعب وعلم -قيادات- الحزب."

ما استفزني لطرح هذا النموذج دون سواه هو نفي الأمين العام المساعد في الحزب الدكتور محمد السعدي ارتباطهم بجماعة الأخوان المسلمين.

وهذه مجرد تدوينة تاريخية أخرى فرضتها احدى مسارات الأحداث .. ويمكننا العودة و ملاحقة الخيط المتعرج والملتوي مثل ثعبان اعمى يبحث عن فريسته ليستقر بها .

ورغم تقارب الاحداث ونلاحقها الا ان فيها تباينا زمنيا و سياسيا وايدولوجيا.

فالحزب الذي وضع موته في كفه والوحدة بين البلدين في كفه هو الان يتحدث عن اذعانه لرغبة الشعب في تقرير مصيره.

وهو ذاته الذي صالح في انتخابات 2006 حتى قبل ان يرشحه حزبه، واليوم يقاتله باسم التخلص منه كطاغية جثم على الشعب لثلث قرن.

هو هو ذاته الذي تغنى بنموذج اللقاء المشترك الذي حوا الى جانبه قوى حوثية واشتراكية، " فارسية و شيوعية - كما تقتضي مصطلحات المرحلة"، وقاتل الثاني في حرب 94 باسم الدين والأول في حرب 15 باسم المذهب.

الحزب الذي افتى احد كبار قادته بوجوب دفع الخُمس للحوثيين، يتحدث الآن عن استحالة العودة للوراء.

هو ذاته الذي يمجد حماس وقطر رغم ارتباطهما التاريخي والقائم والعلني والمعلوم مع ايران، و يجرم ارتباط الحراك المحدود والمنتهي والغائب والمجهول معها.

في لحظة ما تكون الحصانة الممنوحة لصالح هي رأس الحكمة، وفي لحظة اخرى تقتضي ان تكون حرب لا تبقي ولا تذر هي القوة والكرامة وما سواها فهي الخيانة.

ويمكن بكل سهولة وضع رحلتي الهجرة الى سيد صعدة وملك الرياض في نفس السطر وفي نفس خانة رزمانة الاحداث.

يمكن ان يُقرر لتعز ان "تواجه سلميا" رغم استيفاء كل شروط الحرب التي اعتمد عليها لاحقا في تدشينه لقتاله، الحرب التي اطبقت على مدينة مكتظة بالحصار والعطش والجوع و المرض، و يتمكن من ايجاد ثغرات قادرة على اخراج قائد مقاومته ومن معه وإدخال مدرعات ومدافع ويستعصي عليه إدخال قنانين الماء وأنابيب الاوكسجين.

الفارق بين شهادة التاريخ وصناعته لا يكاد يُلاحظ .. وعلينا أن نحمل تذكرة النجاة من اي اتهام لاحق .. التذكرة المكتوب عليها بوضوح "كنا نجهل" علينا أن نتمسك بهذا الجهل قدر امكاننا وفي اعماق ضميرنا ..

وأن نحول صرخات الأطفال قبل الموت بـ"لا تقبروناش" او عدم امكانية صراخهم اصلا لانعدام الهواء، نحولها الى لوحات وكلمات ووسوم نشاركها في الشبكة .. على اساس أننا نعلم.