كل يوم أذهب إلى المكتبة كعادة أي طبيب في العالم، نحن قضينا جل حياتنا بين الكتب، وسنموت على هذه الهيئة، وهذا أمر لم نعد نجادل أو نعترض عليه كثيرًا وعلينا أن نتعايش معه فقط. المهم أني كنت طوال حياتي أقرأ في البيت واذاكر في البيت اعتقادًا انه المكان الطبيعي لهذا الأمر، لكنهم هنا في أوروبا لا يذهبون للبيوت إلا للنوم. إن أردت أن تقرأ او تذاكر أو تحضر للامتحانات فالمكتبة هي المكان المقدس لهذا الفعل السامي..والآن بعد أن جربت مفعول هذا الأمر على التركيز والتحفيز؛ لا أعرف كيف فعلناها طوال الوقت بدون مكتبات ومكاتب، جلوسًا على الأرض..
أنا هنا أنقل ملاحظاتي التي جمعتها كوني زبونة كادت أن تصبح "مُزمِنة" للمكتبات وخاصة مكتبات كلية الطب؛ وما أدراك ما كلية الطب.
تمتلئ المكتبات منذ الصباح وحتى الليل بطلاب العلم، جلهم شباب صغار قرروا أن يتركوا مباهج الحياة في الخارج وأن يتحولوا إلى آلات شغوفة بالمعرفة وحريصة على كل دقيقة في يومها، أراهم كل يوم لساعات طويلة يلتهمون "حرفيًا" أكوامًا من الكتب أمامهم يعكفون عليها بالقراءة والتلخيص والبحث، بلا كلل ولا ملل ولا حراك، وطبعا لا "ملازم القسم" ولا دروس خصوصية ولايحزنون، إنه ال "سيلف ستدي" كما يقول الكتاب. الكمبيوتر رفيقهم الدائم خلال هذه العملية، والتسهيلات المقروءه، المرئية والمسموعة لعلوم الطب التي تقدمها المواقع الطبية ومنصات الجامعات أصبحت أمر لايمكن الاستغناء عنه.
َحتى الذباب لايجروء أن يطن، إن عطستَ أو تنحنحت سيهاجمك الجميع بنظراتهم الشرسة، أعني فقط من لم يستخدمون أجهزة عزل الصوت التي لاحظت الكثيرون يرتدونها، إما سماعات كبيرة تلتف حول رؤسهم أو سدادات صغيرة للأذن كلما جلس أحدهم إلى دُرجه وضعها في أذنيه، حتى الآن لا أعرف ماهيتها ولا من أين يمكن شراؤها..
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يزعجك هو صوت أمعائك التي قد تخذلك وتقرقر جوعًا او توترًا.. لذا يجب أن تملأها بشيء قبل أن يرفع أحدهم فيك شكوى.
يجلس خلفي شاب لطيف ألصق على واجهة كمبيوتره عبارة "لا مشاعر.. لا جنس".. إذن علم فقط.. فهمنا!.. في نفس السياق صادفت البارحة أحدهم وقد تكرر جلوسنا لجوار بعضنا، عندما تحين الساعة الثالثة عشر يخرج من سلته علبة أسطوانية مملؤة بخليط غريب، يشبه الحساء.. يزدرده دفعة واحدة بينما يقرأ! لم أستطع أن أحبس فضولي فسألته عن ماهيته، فاخبرني انه لايملك الوقت للتفكير فيما سيأكله كل يوم، لذا فهو يصنع هذا الحساء وهو عبارة عن الكميات من الأغذية التي سيحتاجها جسمه خلال اليوم، بروتينات ومعادن وفيتامينات وغيرها.. نظرت إلى السعادة والرضا التي في عينه وهو يحدثني عن شيء جوهري أنقذ له وقتًا كان سيقضيه في ممارسة واحدة من أهم مباهج الحياة، الطعام!
أن تتخلى عن وقتك وحياتك الاجتماعية أمر يشعرنا بالتذمر والضجر كأطباء وبشر "عاديين"، ولكن ما الذي يدفع هؤلاء للتضحية بأشياء هي من صميم إنسانيتهم وحاجاتهم لأجل مجال علمي اختاره أحدهم ليكمل به حياته لا لينسفها! والظاهر أن كل هؤلاء لا يفكرون هكذا، هم يقومون بشيء هم شغوفون به، شيء اختاروه بكل قناعة بعد دراسة وتفحيص ومن بين خيارات لا نهائية وكلها جيدة وبإمكانها تأمين مستقبل ممتاز، وليس لأنهم متفوقون فقط، أو يريدون حياة مادية أو اجتماعية جيدة، إنه الشغف ولا غيره..
الشغوفون موجودون في كل مكان، أنا أراهم الآن وقد تجمعوا في مكان واحد، ولا أعرف إن كنتُ أبدو مثلهم أيضًا عندما كنت في الجامعة، أو إن كان هناك من زملائنا من هم مثلهم أو ربما أكثر، ولكني أكيدة أننا فرطنا في مجهوداتنا التي انسكبت في مجرى نظام فاشل، ومنظومة قاصرة..جعلت من كل هؤلاء الشغوفين يفكرون في تغيير هذا المجال مرة في اليوم على الأقل..
لم انتمِ يومًا إلى هذا العالم المجنون شغفًا، أنا أفضّل أن أضع عينًا في الكتاب وعينًا في النافذة.. اقرأ كلما شعرت برغبة أو داهمني الوقت، وأعيش كلما سنحت لي الفرصة. أنا طبيبة جيدة بالقدر الذي يجعلني نافعة وأنا إنسانة بالقدر الذي أبدو معه مستنفعة، آخذ من الحياة وقتًا لنفسي، وأكتب لكم من وسط أشد الأماكن هدوءًا على وجه الأرض، لأشارككم ضجيج أفكاري..مبا